إذا أحسست من أمة ميلاً إلى الوحدة فبشّرها بما أعدّ الله لها في مكنون غيبه من السيادة العليا والسلطة على متفرقة الأمم (جمال الدين) الدكتور وجيه فانوس لعل من أبرز وأهم ما يمتاز به فكر السيد جمال الدين، عند كثير من كبار الباحثين في أمور الحياة الإسلامية والعربية المعاصرة، قدرته الفذة على النظر إلى الموضوع الديني لا باعتباره مجرد مظهر لانتظام العلاقة بين العبد وربه و حسب؛ بل باعتباره، إضافة إلى هذا، مظهراً لوجود حضاري يسعى الإنسان من خلاله إلى تحقيق وجوده([252]). ولذا، يمكن القول أن السيد جمال الدين استطاع أن يدخل الفكر الإسلامي المعاصر في القرن التاسع عشر إلى مساحات من التفاعل مع الحياة كاد أن يكون، في ذلك الوقت تائهاً عنها. لقد تعرض الفكر الإسلامي عامة، وفي تلك المرحلة من تاريخه المعاصر، إلى تشوهات كثيرة منها ما استند إلى اجتهادات مدعين للعلم، والعلم الموضوعي بعيد عنهم؛ ومنها ماكان بناء على تصرفات مبتدعين لأساليب نظر في الدين، والدين الحقيقي لا علاقة له بها. وكان لأفكار السيد جمال الدين والمبادئ التي نادى بها أن تعيد كثيرا من مسلمي وعرب تلك المرحلة إلى رحاب الفهم الحقيقي للإسلام؛ ذلك الفهم الذي دعت إليه الشريعة الإسلامية السمحة، والذي رأت في الإسلام مدخلا إلى الدنيا والآخرة معاً؛ بل إنها رأت في الإسلام ضرورة لابد من وجودها لتحقيق الحضارة الإنسانية جمعاء. ولعل من أبرز مايشهد لهذا، عند السيد جمال الدين، ماجاء في مقالة نشرت له في »العروة الوثقى« حول موضوع الجنسية والديانة الإسلامية يقول السيد جمال الدين »إن الدين الإسلامي لم تكن أصوله قاصرة على دعوةالخلق إلى الحق، وملاحظة أحوال النفوس من وجهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالم أعلى، بل هي كما كانت كافلة لهذا جاءت وافية بوضع حدود المعاملات بين العباد، وبيان الحقوق كليها وجزئيها، وتحديد السلطة الوازعة التي تقوم بتنفيذ المشروعات وإقامة الحدود وتعيين شروطها«([253]). يؤمن السيد جمال الدين بدور للقوة في الحياة الاجتماعية للإنسان؛ بل هو يرى في القوة أداة فعالة لصيانة الأمة وحفظ وجودها من احتمالات تعدي الآخرين على هذا الوجود. ومن هنا، فهو يقول »كل أمة لا تمد سواعدها لمغالبة سواها لتنال منها بالغلب ما تنمو به بنيتها ويشتد به بناؤها فلابد يوماً أن تقضم وتهضم وتضمحل ويمحى أثرها من بسيط الأرض«([254]). ويستخلص السيد جمال الدين من هذا مبدأ يرى فيه القوة أساسا لوجود الأمة الناجحة والقادرة على البقاء؛ فيقول »إن التغلب في الأمم كالتغذي في الحياة الشخصية«([255]). يمكن للمرء أن يستخلص، هاهنا، أن السيد جمال الدين يجد في الدين وجودا عمليا لممارسة العيش على هذه الأرض وبين ناسها؛ وهو وجود جمع للمؤمنين به ليمارسوا عيشهم هذا، وليسموا بهذا العيش إلى رحاب الحياة الآخرة. فليس الدين، عند السيد جمال الدّين، إلا فعل جمع وتوحيد لأهله؛ ولذا فهو يسعى عبر هذه النظرة إلى الحد من سلبية وجود المذاهب المتعددة ضمن الدين الواحد؛ والدين الإسلامي تحديدا. إن السيّد جمال الدّين لا يرى في الدين عنصر أو عامل فصل بين أهل الدّين، مهما تنوعت مذاهبهم وتعددت؛ بل وجد فيه قدرة توحيد وفعل لمّ شمل مستمرين. وعلى هذا الأساس فإن السيد جمال الدين يرى بأن المسلمين قد خرجوا، بإسلاميتهم، عن النطاق الضيق الذي يمكن أن تحصرهم فيه روابط العصبية العرقية، وأصبحوا ينعمون برابطة الدين المنفتحة على الوجود الإنساني برمته. ومن هذا القبيل ماذكره السيّد عن أن المسلمين »لا يعتدون برابطة الشعوب وعصبات الأجناس، وإنما ينظرون إلى جامعة الدين«([256]). لذا، يمكن القول، بوضوح، إن السيّد جمال الدّين استطاع أن يصل إلى خلاصة أساس في هذا المجال. ففي زمن كانت الدعوة إلى العصبية القومية قد بدأت تستشري في العالم الإسلامي، بتأثير من التفكير الأوروبي الوافد على البيئات الإسلامية، طرح السيد جمال الدّين خلاصة رأيه هذا الذي يقوم على محاربة النزعات القوميّة، وقمع أي ميل نحو التعصب العرقي. وإذا به يؤكد، تالياً، العودة بالمسلمين إلى صفاء دعوتهم الدينية القائمة على التفاعل الإنساني المنفتح عبر الشريعة التي سنها الرحمن؛ ويرى أن » كل فخار تكسبه الأنساب، وكل امتياز تفيده الأحساب لم يجعل له الشارع أثراً في وقاية الحقوق وحماية الأرواح والأموال والأعراض، بل كل رابطة سوى رابطة الشريعة الحقة فهي ممقوتة على لسان الشارع، والمعتمد عليها مذموم، والمتعصب لها ملوم«([257]). من هنا يمكن فهم بعض المبادئ الأساس التي انتظمت حركية الوجود السياسي للسيد جمال الدين في مجال دعوته الإسلامية التوحيدية. وأول هذه المبادئ، كما جاء في بحث نشر للسيد في »العروة الوثقى« أن »لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم«([258]). فالجنسية الأساس عنده، هي تلك التي تنتظم الناس في مجال الوحدة الإسلامية؛ وهي، تالياً، الجنسية الإسلامية من غير ما لبس. وهي، أيضا، جنسية تمنع أي تعصب للعرق، أو للجنس، بل حتى لما يمكن اعتباره ميزات تاريخية أو حضارية خاصة. فكل الناس، هاهنا، مسلمون يجمعهم »الاتفاق والتضافر على تعزيز الولاية الإسلامية«؛ وهذا الاتفاق على مايمكن تسميته من حديث عن الجنسية، إلى تركيز وتأكيد لما يمكن أن يكون حديثا عن الهوية، هو، عند السيد، »من أشد أركان الديانة المحمدية«، والعمل به »من أوليات العقائد عند المسلمين«([259]). انطلاقاً من هذه الرؤية، فإن السيد جمال الدين يحدد ملامح الفعل السياسي الذي يجب أن ينتظم عمل المسلمين في تلك المرحلة. ولعل من أوليات هذا الفعل أن السيد جمال الدين يحدد مفهوماً جديدا للعمل السياسي الحزبي؛ ومن المعروف أن بعض الأحزاب السياسية كانت قد بدأت تنشط ضمن صراعات داخلية معينة في الكيان الإسلامي العام. ومن هنا يقول السيد جمال الدين أن الأحزاب ليست لتتعارض فيما بينها وتتنازع، بقدر مايجب أن تكون وجودا محرضا للوحدة وممارسة تسد من ثغرات الفرقة والتشتت اللذان يمكن للأمة أن تعانيهما. ولذا، فإن السيد جمال الدين يرى أن من واجب الأحزاب السياسية ومصالح الجماعات الحاكمة أن تتضامن فيما بينها لخدمة الإسلام. إن مما يوضّح آلية عمل هذا الفعل السياسي مايذكره السيّد جمال الدّين في أحد مقالاته في »العروة الوثقى« حول مفهوم وحدة الجماعات الإسلامية المنتشرة في أرجاء الأرض. فهو يرى »من أدرنة إلى بيشاور دولاً إسلامية متصلة الأراضي، متحدة العقيدة، يجمعهم القرآن، لا ينقص عددهم عن خمسين مليونا، وهم ممتازون بين أجيال الناس بالشجاعة والبسالة«؛ ثم يتساءل قائلاً »أليس لهم أن يتفقوا على الذب والإقدام كما اتفق عليه سائر الأمم؟« والإتفاق الذي يتحدّث عنه السيّد جمال الدّين، هاهنا، ليس اتفاقا تمليه المصالح الآنية أو الرؤى السياسية المرحليّة؛ بل هو إتفاق يوجبه الشرع الإسلامي، وتتطلبه أصول ممارسة الوحدة بين المسلمين. ولذا يقول السيّد جمال الدّين إن هذا الإتفاق الذي يتوقعه من القوم ليس »ببدع منهم، فالاتفاق من أصول دينهم«([260]). ولا يقف السيّد عند هذا الحد من الحض على الإتفاق بين المسلمين، بغض النظر عما يمكن أن يكون المسلمون أنفسهم قد تحدرروا منه من عصبيات أو جنسيات، بل يذهب إلى القول بأن هذا الإتفاق يقود إلى تحقيق أمرين أساسيين في الحياة الإسلامية. الأمر الأول، ووفاقاً إلى مايذهب إليه السيد، أمر معرفي يكشف عن أحكام الله؛ أما الأمر الثاني فهو، وكما يذكر السيّد جمال الدّين، من باب الوجوب الديني الذي لابد للمسلم من الأخذ به. وعلى هذا، يقول السيد في مبحث له نشر في »العروة الوثقى« حول الوحدة والسيادة: »بلغت مكانة الاتفاق في الشريعة الإسلامية أسمى درجة في الرعاية الدينية حتى جعل إجماع الأمة واتفاقها على أمر من الأمور كاشفاً عن حكم الله ومافي علمه، وأوجب الشرع الأخذ به على عموم المسلمين، وعد جحوده مروقاً من الدين وانسلاخاً عن الإيمان«([261]). إن الوفاق الذي يدعو إليه السيّد جمال الدّين يتجاوز محدوديّة مبدأ المصالحة بين الخصوم؛ ويتجاوز مبدأ تقارب المصالح والأغراض الآنية أو المرحلية. الوفاق السياسي بين المسلمين بنظر السيّد جمال الدّين هو فعل تحقيق للوجود الإسلامي برمته؛ بل هو الإحساس الإسلامي بوجود الأمة الإسلامية، وضرورة عيش آمالها وآلامها وتحقيق طموحاتها ومبادئها. وكأن الوفاق الذي يدعو إليه السيّد جمال الدّين هو اندماج للبوتقة الفردية الضيقة التي يعيش فيها الفرد خصوصيات وجوده، بالكيان الجمعي للأمة؛ بل بكل مافي هذا الكيان من شمولية وامتداد عبر الزمان والمكان والأشخاص. فالسيد جمال الدين يدعو، عبر تأكيده لضرورة وأهمية الوفاق بين الجماعة، إلى توحد إيجابي بين الفردية والجمعية في الحياة الإسلامية. ولعل مصداق هذا، ماجاء في كلام للسيد في مقال نشر له في »العروة الوثقى« حول الوحدة والسيادة يقول فيه إن »الوفاق تواصل وتقارب بحدثه إحساس كل فرد من أفراد الأمة بمنافعها ومضارها، وشعور جميع الآحاد في جميع الطبقات بما تكسبه من مجد وسلطان… وهذا الاحساس هو مايبعث كل واحد على الفكر في أحوال أمته فيجعل جزءا من زمنه للبحث فيما يرجع إليها بالشرف والسؤدد وما يدفع عنها طوارق الشر والغيلة، ولا يكون همه بالفكر في هذا أقل من همه بالنظر في أحواله الخاصة، ثم لا يكون نظراً عقيماً حائراً بين جدران المخيلة، دائراً على أطراف الألسنة، بل يكون استبصاراً تتبعه عزيمةً يصدر عنها عمل«([262]). عندما يأتي الدور للكلام عن القيادة التي يجب أن تتولى تنفيذ هذه السياسة للوحدة الإسلامية، فإن السيّد جمال الدّين يقدم دراسة للواقع المعيش في زمنه؛ ثم يسعى إلى عرض مايراه حلولا ناجحة من ضمن هذا الواقع. يرى السيّد جمال الدّين، أن تعدد القيادات ضمن العالم الإسلامي هو عامل سلبي في وجه تحقق شروط الوحدة. وهو يرى أن »تعدد الملكة عليهم (المسلمون) كتعدد الرؤساء في قبيلة واحدة والسلاطين في جنس واحد، مع تباين الأغراض وتعارض الغايات، فشغلوا أفكار الكافة بمظاهرة كل خصم على خصمه، وألهوا العامة بتهيئة وسائل المغالبة وقهر بعضهم لبعض، فأدت هذه المغالبات، وهي أشبه شيء بالمنازعات الداخلية، إلى الذهول عمّا نالوا من العلوم والصنائع، فضلا عن التقصير في طلب مالم ينالوا منها، والإعسار دون الترقي في عواليها«([263]). إن تعدد القيادات الذي يعيشه العالم الإسلامي زمن السيّد جمال الدّين أدى، بنظر السيد، إلى شغل الناس بما ليس من حقيقة أهدافهم. ولذا، فهو يرى أن اهتمام الناس بالتحزب مع قيادة ضد أخرى، حوّل انتباه القوم عن الأهم في الممارسة السياسية، أي القوة. فالقوة، المادية، كما المعرفية، أساس لتحقيق الغلبة؛ والغلبة، بحد ذاتها، أساس لابد منه لتحقيق الوحدة. والبارز في كلام السيّد جمال الدّين يكمن في حديثه عن الدور الذي يلعبه الإنقسام السياسي في إلهاء القوم عن زيادة التحصيل العلمي والمعرفي. وتتضح الأهمية التي يوليها السيد جمال الدّين للعلم في تحقيق الوحدة الإسلامية عندما يحدد العدو الذي يواجه المسلمين ووحدتهم. ويقول السيّد جمال الدّين في هذا المجال إن »الاستعمار، بمعناه الصحيح ومبناه الصريح، هو تسلط دول وشعوب أقوياء علماء، على شعوب ضعيفة جهلاء، ولا يخرج عامل الغلب والقهر عمّا ذكرناه فيما سبق وهو »القوة والعلم« يحكمان ويتحكمان »بالضعف والجهل«([264]). ولذا، فلما كان الجهل العلمي والمعرفي هو الباب الذي يفتحه أهل الأمة للإستعمار كي يدخل منه إلى رحابهم ويتحكّم ، عبره، بمصائرهم؛ فإن السعي إلى العلم وتأمين وسائل تحقيق هذا السعي، من الأمور اللازمة للخلاص من ربقة الاستعمار وتالياً، تحقيق الغلبة والوحدة الإسلاميتين. بيد أن السيّد جمال الدّين يدرك تمام الإدراك أن تحقيق قيادة واحدة للمسلمين في زمنه ليس، ربما بسبب من ضعف المسلمين أنفسهم وشدة تغلغل الاستعمار في مجالات عيشهم، بالأمر السهل أو حتى الأمر الممكن. ومن هنا، فإن السيّد جمال الدّين لا يشترط تحقيق الوحدة عبر القائد الواحد، بقدر ما يشترطها عبر تحقيق وحدة القيادة. ويرى السيّد جمال الدّين أن القيادة تكون بجعل القرآن الكريم سلطاناً يخضع جميع القادة لتعاليمه ويسيرون في سياساتهم بهديه؛ وبذا يتكتل القادة المسلمون ضمن رؤية استراتيجية واحدة هي رؤية القرآن الكريم، ويكون، كما يقول السيد، »وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه«([265]). وهنا يشير السيد جمال الدّين إلى دور أساس يمكن للعلماء القيام به في هذا المجال. إنه يرى أن العلماء يشكلون أحد أهم ضمانات تحقيق المعرفة والوفاق والغلبة والوحدة؛ فيقول »لو ترك المسلمون وأنفسهم بما هم عليه من العقائد، مع رعاية العلماء العاملين منهم، لتعارفت أرواحهم، وائتلفت آحادهم«([266]). يمكن القول إن السيّد جمال الدّين قد حدد، بصورة عملية وواقعية مميزة الأسس التي تقوم عليها دعوته إلى الوحدة الإسلامية. ولعل من أپرز هذه الأسس ذهابه إلى أن من واجب الأحزاب السياسية ومصالح الجماعات الحاكمة أن تتضامن فيما بينها لخدمة الإسلام. ومنها أيضا أن الوحدة الإسلامية ليست في ذلك التعاون الذين يمكن أن يقوم على مستوى القيادات السياسية والدينية، وفيما بينها؛ بل هي، كذلك، في تضامن الأمة جمعاء. أما الهدف السياسي والحضاري للوحدة الإسلامية، الذي يسعى إليه السيد جمال الدين، فهو في تمكين الأمة الإسلامية، بالدرجة الأولى، وسائر أهل الشرق، على الوقوف في وجه الاستفزاز والعدوان اللذان كان يمثلهما التوسع الأوروبي زمنذاك. لذلك فقد مارس السيد جمال الدين دعوته إلى هذه الوحدة الإسلامية، عبر موقف ريادي واسع الأفق. لقد توجّه إلى المسلمين في بلاد فارس والأفغان طالباً منهم العمل على تحقيق الوحدة مهما تنوعت أو تعددت مذاهبهم وفرقهم الإسلامية. ويرى السيّد جمال الدّين، في هذا المجال، أن (الفرس والأفغان) طائفتان هما فرعان لشجرة واحدة، وشعبتان ترجعان لأصل واحد هو الأصل الفارسي القديم، وقد زادهما ارتباطا اجتماعهما في الديانة الحقة الإسلامية، ولا يوجد بينهما إلا نوع من الاختلاف الجزئي، لا يدعو إلى شق العصا وتمزيق نسيج الاتحاد، ليس بسائغ عند العقول السليمة أن يكون مثل هذا التغاير الخفيف سبباً في تخالف عنيف([267]). وهو يذهب أعمق في هذا الموضوع، إذ يقترح أن »ليس ببعيد على همم الإيرانيين وعلو أفكارهم أن يكونوا أول القائمين بتجديد الوحدة الإسلامية، وتقوية الصلات الدينية، كما قاموا في بداية الإسلام بنشر علومه، وحفظ أحكامه، وكشف أسراره، وما قصروا في خدمة الشرع الشريف بأية وسيلة«([268]). ولذلك أيضا، فقد رأى السيّد جمال الدّين أن بإمكان الناس في الهند، كما في مصر، وإن اختلفت أديانهم وتنوعت، أن يتحدوا فيما بينهم، لمواجهة الاستفزاز والعدوان القادمين من بلاد الغرب([269]). وثمة من الباحثين الرصينين من يشير إلى نقاط مشروع عملي لتوحيد السياسة الإسلامية كان السيد جمال الدين يدعو إليه، ويسعى إلى تحقيقه([270]). ولعل من أبرز سمات هذا المشروع أنه كان يعمل على ضم الوجودين العثماني والفارسي، الأول بصفته المذهبية السنية، والثاني بصفته المذهبية الشيعية، إلى بعضهما كي يتمكنا من الوقوف معا بنجاح في وجه التسلط الغربي. بل إن من الباحثين من يذهب إلى أبعد من هذا، إذ يشير إلى إمكانية كون هذا المشروع من الأسباب التي أدت إلى مصرع الشاه ناصر الدين القاجاري الذي كان معارضا له؛ والذي يقال بأن السيد جمال الدين كان من الحاضين على تنفيذ هذا الاغتيال([271]). يبقى القول أن السيّد جمال الدّين كان نموذجا لجانب عملي فذ عرفته مفاهيم الوحدة الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر. لقد سعى الرجل، بفردية مميزة، إلى إنشاء تيار من الممارسات السياسية القائمة على نظر محدد في فهم الدور العملي للإسلام في الحياة الإنسانية. ومن الواضح أن كثيرا مما طمح إليه السيّدجمال الدّين لم يتحقق بحذافيره؛ لكن من الواضح أيضا كثيرا من أفكار السيد جمال الدّين انزرعت بقوة في نفوس كثيرين من ناس ذلك الزمن. ومن الجلي أن هذه الأفكار وجدت من يحملها الى ناس الجيل الذي أتى بعد جيل السيد جمال الدين، لكن، لابد من القول أن أفكار السيّد جمال الدّين ظلت عند التطبيق، من قبل مريديه والمؤمنين بدعوته إلى الوحدة الإسلامية، دون طموحات السيد، وأقل مما كان يرجوه لها. أما اليوم، فإن أفكار السيّد جمال الدّين تبدو وكأنها لاتزال تأتي، عبر منهجية وجودها، حلولا، بل تحديات، لكثير من المعضلات التي تواجه تحقيق الوحدة الإسلامية. نعم، لابد من عودة رصينة إلى منهج أفكار السيّد جمال الدّين، ولابد من إعمال نظر جدي ومسؤول في الأوضاع الراهنة للمسلمين في ضوء الطروحات التي يقدمها فكر السيّد جمال الدّين. لقد دعا السيّد جمال الدّين إلى الوحدة الإسلامية عبر قيادة القرآن الكريم، ودعا إلى منع الاختلاف الحزبي والمذهبي من أن يكون سبيلا لهدم الأمة وتشتيت صفوفها، وشدّد السيّد جمال الدّين على أهمية القوة والغلبة إن كان في المجال المادي أو في المجال العلمي. ولا مندوحة من التأكيد، في هذا المجال، من أن السيّد جمال الدّين قد أوضح، ومنذ البدء، أن الاستعمار الغربي هو العدو الأساس الذي يتربص النوائب بالوحدة الإسلامية، وأن على المسلمين أن يتوحدوا لمواجهة هذا الخطر. ويبقى عدد من التساؤلات يلوح في البال. فهل بات المسلمون على وعي بما أشار عليه السيّد جمال الدّين قبل ما ينوف على قرن من الزمن عدما أكّد لهم أن الاختلاف في المذاهب ضمن الدين الواحد لا يجب أن يستغل لتفريق هذا الدين؟ وهل أدرك المسلمون، منذ ماينوف على القرن من الزمن، أهمية المثال الذي قدّمه لهم السيد جمال الدين عن تجربة الألمان مع المذاهب الدينية حين قال: »كان الألمانيون يختلفون في الدين المسيحي على نحو مايختلف الإيرانيون مع الأفغانيين في مذاهب الديانة الإسلامية، فلما كان لهذا الاختلاف الفرعي أثر في الوحدة السياسية ظهر الضعف في الأمة الألمانية، وكثرت عليها عاديات جيرانها، ولم يكن لها كلمة في سياسة أوروبا، وعندما رجعوا إلى أنفسهم وأخذوا بالأصول الجوهرية وراعوا الوحدة الوطنية في المصالح العامة أرجع الله عليهم من القوة والشوكة ماصاروا به حكام أوروبا وبيدهم ميزان سياستها([272])؟