جمال الدين الافغاني الدكتور عبدالحكيم الطبيبي جمال الدين الأفغاني أفغانستان وإيران بلدان ارتبط أحدهما بالآخر منذ فجر التاريخ. ومثلما قال العالم الإيراني الدكتور أفشر »إيران وأفغانستان هما روح واحدة في جسدين اثنين« فمنذ خمسة آلاف عام وقبل أن تظهر الديانات والحضارات في الشرق الأوسط والهند كانت مدينة بلخ (باخالي) في شمال أفغانستان، »أم البلاد«، كما سمّاها العرب فهي عاصمة ملوك عظماء وعاصمة كلا البلدين. كانت أول حضارة في التاريخ حين ظهرت الديانة التي انتشرت في الشرق الأوسط وأوروبا فضلا عن الهند والصين. وأفغانستان وإيران فخورتان بالحضارة القديمة التي ظهرت في ظل مملكة كياني وكان أول حاكم لها يسمى ياما وفيها ظهرت مبادئ ديانة كبرى أعلنها بخدي أمير زردشت. ولعل كتاب »افستا« هو من المخطوطات التي تغطي المناطق المعروفة حالياً بأفغانستان وخراسان (إيران) وباكستان حالياً ووسط آسيا. ويفخر الإيرانيون والأفغان بماضيهم المشترك وبثقافتهم وعلاقاتهم الدينية والعرقية والتاريخية وكلاهما يحترم كبار الشخصيات التي ظهرت في البلد الآخر سواء منهم الصوفيون أو الأولياء أو الشعراء أو الأبطال أو القادة. ومن عظماء الأبطال الذين ظهروا في التاريخ المعاصر جمال الدين الأفغاني الذي ولد في كونار، بأفغانستان عام 1838. وقد هاجر، وهو صبي، من أفغانستان مع والده وأسرته إلى بستام، وهمذان وبقي في أسد آپاد في إيران. والسبب في هجرة أسرته إلى همذان هو البغض الأسري الذي كان قائماً بين والد الأفغاني سيد صفدر وعمه سيد عبد الله الذي كان صهر بطل تاريخي عظيم من أبطال أفغاسنتان هو وزير أكبر خان. ونتيجة لذلك البغض صودرت جميع أراضي وممتلكات سيد صفدر في كونار من جانب الحكومة فاضطر الوالد إلى مغادرة كونار في أفغانستان متوجها إلى كابول عام 1844 وذهب من ثمة إلى إيران. درس جمال الدين الأفغاني في إيران في أيام صباه إلى أن غادرها إلى الهند في عام 1855 ومنها خرج ليطوف في أنحاء العالم. وقد تعلم الكثير من مدرسيه الإيرانيين أو الهمذانيين في أيام صباه كما أنه تعلم اللغات الأجنبية أيام وجوده في الهند. وقد أصبح مدرساً لأپناء حاكم أفغانستان، أمير دست محمد، ولاسيما أمير أعظم خان الذي أصبح ملكاً في وقت لاحق. ولكنه فقد عرشه الذي اعتلاه أمير شير علي فاضطر أمير أعظم خان إلى الهجرة إلى بستام وتوفي في إيران. وبما أن والده الأفغاني تزوج في إيران هناك العديد من الأشخاص ممن يدعون أن لهم علاقة قرابة بالأفغاني، الذي سمّى نفسه الأفغاني طيلة حياته وأپقى على جنسيته وحافظ على علاقاته بأصدقائه في أفغانستان وكان دوماً فخوراً بأفغانيته. وفي رسالة موجهة إلى الخليفة التركي السلطان عبد الحميد طبعت ونشرت من قبل جامعة طهران في كتاب عنوانه »وثائق وإسناد«، إفاض في مدح شجاعة الشعب الأفغاني خاصة فيما يخص جهاد هذا الشعب من أجل الإسلام. وسواء كان الأفغاني إيرانياً أو أفغانياً فهو يعتبر بطلا عظيما من أبطال الإسلام ناضل من أجل وحدة جميع البلدان الإسلامية. وفي هذا السياق لابد لي من أن أضيف، بصفتي مؤلفاً وناشراً للعديد من المقالات والكتب المتعلقة بالأفغاني التي هي معروفة للعلماء الإيرانيين وغيرهم، بأنني على علم بالخلط الذي يكتنف جنسية الأفغاني وهذا الخلط منشؤه مصادر فاقدة للصواب ولاسيما المؤلفون الانكليز واليهود. وسوء التفاهم منشؤه ما أورده كتاب وعملاء بريطانيون كانوا يوجسون خيفة من دخول الأفغانيين وغيرهم من الأجانب إلى أفغانستان ومن خروجهم منها أثناء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالنظر إلى اللعبة العظمى التي كانت سائدة أيامئذٍ والتي تحدث عنها الكاتب كيبلنيغ. وثمة جدل يحيط بمنشأ الأفغاني بدأه في القرن العشرين بعض الأساتذة مثل الأستاذ كيكي ر. كيدي وعلي خيدوري. وما نشره هذان الكاتبان كان القصد منه تشويش الأذهان فيما يتعلق بأصل الأفغاني الذي كان يعتبر مدافعاً عن الوحدة الإسلامية ومناضلا ضد الاستعمار الأجنبي. وكان الأوروبيون يعتبرون الأفغاني مناهضاً للاستعمار لأنه كان الوحيد الذي رفع راية مقاومة الاستعمار عن طريق إلقاء المحاضرات ونشر الصحف والمجلات والدعوة إلى مذهب تقرير المصير. وفي الحوار الذي أجراه جمال الدين مع راندلف تشرشيل والد ونستون تشرشيل ومع كرومند ولف الدبلوماسي البريطاني الذي أصبح في وقت لاحق سفيرا لبريطانيا العظمى في استنبول، أوجد البريطانيون خوفاً في نفس السلطان عبد الحميد من وجود جمال الدين الأفغاني في عاصمة الإمبراطورية العثمانية. وكان الأفغاني يعتبر العدو الأول للبريطانيين وكان الجواسيس البريطانيون يتقفون أثره أينما ذهب. فهم كانوا يخشون من أنه سيثير مشاكل ومن أن أتباع الأفغاني مثل عرابي في مصر والمهدي في السودان والوطنيين الهندوس والمسلمين في الهند سيثورون ضد الحكم البريطاني. ونتيجة لذلك اضطر جمال الدين إلى الخروج من مصر إلى الهند حيث كان يلقي خطبا في كلكتا وحيدر آباد. وطرد أيضا من الهند فذهب إلى باريس وهناك قام بنشر 18 عددا من مجلته التاريخية »العروة الوثقى« ويعتقد محمود ترزي، وابنه غلام محمد ترزي الذي ألقى قصيدة طويلة عن جمال الدين الأفغاني أن والده أرسله إلى استنبول لكي يتعلم عن الأفغاني. ومحمود ترزي هو الذي قدم الأفغاني للشعب الأفغاني عندما أصبح رئيس تحرير »السراج الأكبر« . وقد أصبح محمود معادياً للاستعمار بسبب تأثير الأفغاني، وصهره، الملك أمان الله، نفذ المثل العليا التي كان يؤمن بها جمال الدين حين أعلن الحرب ضد البريطانيين عام 1919. كما أن جمال الدين الأفغاني كتب رسالة تاريخية من باريس وجهها إلى السلطان عبد الحميد وطلب فيها إليه السفر من أجل العمل على تعبئة الشعوب الشجاعة في أفغانستان وبلوشستان والهند وجمهوريات آسيا الوسطى من أجل المحاربة لنيل الاستقلال. وفي هذه الرسالة ركز بالدرجة الأولى على شجاعة أپناء بلده الأفغانيين. ومن الأدلة الإضافية ماورد في كتابات أقرب صديق للأفغاني وهو الشيخ محمد عبده، رئيس تحرير مجلة العروة الوثقى، ومؤسس الحركة السياسية المصرية سعد زغلول. وقد تولى الشيخ عبده كتابة ترجمة لحياة الأفغاني قال فيها إنه أفغاني من كونار. وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان جمال الدين الأفغاني هو الضوء الوحيد المنير وشعاع الأمل في القلوب. فالعالم الإسلامي كان يشهد القمع الاستعماري والتناحر الداخلي والفقر وكان في حاجة ماسة إلى زعيم مثل جمال الدين. وما من أحد يطلع على تاريخ هذه الحقبة يمكنه أن ينكر أن الأفغاني كان من أبرز الشخصيات والشخص الذي عمل على إحياء الشرق وقد كان صاحب مؤهلا ت جعلت منه سياسياً عظيماً ومفكراً فذا في زمنه. ويقول الفيلسوف الفرنسي الكبير رينان بشأنه »قليلون هم الذين تركوا في نفسي أثرا لا ينمحي، والحوار الذي أجريته معه كان إلى حد بعيد هو الباعث على أن أختار العلاقات بين الروح العلمية والإسلام موضوعاً لمحاضرتي في السربون…« وإن تفكيره الحر وخلقه النبيل وإخلاصه جعلتني أتصور، وأنا أتحدث إليه، أنني بحضرة أشخاص عرفتهم من قبل من مثل ابن سينا وابن رشد وغيرهم من الشخصيات التي مثلت طيلة أربعة قرون تقليد الفكر البشري«. وهذا البيان الذي أدلى به واحد من عظماء فلاسفة أوروبا يكفي في حد ذاته دليلاً على رفعة مؤهلات الأفغاني وعظمته وقد اعتبره الباندت نهرو مصلحاً دينياً عظيماً. وقد كان إقبال ونامق كمال وهو رجل ثوري ديني ومدافع عن الوحدة الإسلامية والبروفيسور أدوارد ج. براون، مؤلف »الثورة الفارسية« رجلاً ساعد على إيقاد جذوة المقاومة الإسلامية ضد التوسع الاستعماري الأوروبي وهيمنته. والبعض من الكتاب يشبهون الشخصيات العظمى في التاريخ بالأَحجار الكريمة من مثل الياقوت والعنبر والفيروز والزمرد التي تلمك بريقاً خاصاً ورونقاً ولوناً وجمالاً ولكن جمال الدين كان الحجرة الماسية التي لا تضاهى والتي تشع من جميع جوانبها. إنه كان مصلحاً وقائداً دينياً وفيلسوفاً وكاتباً وصحفياً وكان فوق كل شيء سياسياً ومحرراً للشرق وللعالم الاسلامي. وماكان جمال الدين البطل العظيم في الشرق والعدو للاستعمار إلا لنشاطه السياسي، وقد عم تأثيره البلاد وتخطى حدود أفغانستان وامتد من البنغال إلى الشواطئ الأطلنطية في أفريقيا. وإن ما حققه الأفغاني كرجل بمفرده لا يملك مالا ولا سلاحا ولا دعماً من أي جهة ضد قوى أوروبا الكبرى وقد عاني من المصاعب والمكائد من البلدان الغربية وعملائها وجواسيسها لهو إنجاز عظيم في نظر بعض الكتاب المعاصرين مثل مؤلف »الأفغاني وعبده« وغيره من الكتاب مثل خيدوري، وكان جمال الدين رجلا متفانياً في خدمة مُثله ومجرداً عن أنانية السياسيين وقادة الشرق. وفيما كانت آسيا برمتها والعالم الإسلامي أجمع في سبات عميق من الجهل أثناء القرن التاسع عشر كان الأفغاني يناضل بقلمه ويستمد القوة من روحه لتحرير شعبه من ربقة المستعمرين الأوروبيين. وقد واصل جهاده في كل مكان وبكل الوسائل التي أتيحت له وفي كل مدينة وبلد وحتى في قلب المراكز الاستعمارية مثل لندن وباريس وبرلين وسانت بطرسبرغ إلى أن وافته المنية. ومع أن القدر لم يمهله ليجني ثمار كفاحه وهو حي إلا أن ما زرعه أثمر بالتأكيد بعد مماته. فقد حصل بلده أفغانستان على استقلاله بعد مالا يزيد على 22 سنة من وفاته. وما كان يتمنى أن يتحقق على يد تلميذه الأمير محمد أعظم خان تحقق على يد تلميذ آخر من تلامذته هو محمود الترزي من خلال زوج ابنته الأمير أمان الله، خلال حكمه. وفي مصر أصبح تلميذ آخر وصي من تلامذته،هو سعد زغلول، أبا لمصر الحديثة. وفي تركيا فعل نامق كمال وتابعه أتاتورك ما كان الأفغاني يريد للأتراك أن يفعلوه. وفي الهند كللت بالنجاح جهوده التي كانت ترمي إلى جمع كلمة الهندوس والمسلمين على حرب الإنكليز. وتبنى زعماء المسلمين والهندوس من أمثال أبو الكلام أزاد والعلامة إقبال وغاندي وبانديت نهرو مبادئه السياسية والاجتماعية. لقد كان الأفغاني يسعى إلى تحقيق الوحدة الإسلامية عن طريق »أم القرى« . وقد تحقق ذلك عن طريق قيام منظمة المؤتمر الإسلامي. وكان الأفغاني يؤيد الوحدة العربية، وإذا بالجامعة العربية تنشأ بعد الحرب العالمية الثانية وتبدأ نشاطها على ضفاف النيل. وكان الناس يعتبرون جمال الدين الأفغاني »سلفياً مجدداً« كما كانوا يعتبرونه »مصلحاً إسلامياً« وبفضل تعاليمه، نبذ الناس جمود التقليد كما نبذوا النموذج الغربي الذي أراد السير سيد أحمد، مؤسس جامعة عليكره، أن يسيروا على نهجه، وسياسة الأفغاني التي تقوم على الوسطية كانت ولاتزال خير سياسة للمسلمين. وكما ذكرت من قبل فإن نشاط الأفغاني السياسي هوالذي استرعى اهتمام المجتمع الدولي والعالمي فقد كان الأفغاني خلال القرن التاسع عشر أكبر داع من دعاة الحرية وتقرير المصير لشعوب الشرق المقهورة ومن أكبر المناضلين ضد الإمبريالية الأوروبية – وقد اتبع لبلوغ هذا الهدف السامي أربعة مبادئ سياسية وكان يستخدم هذه المبادئ منفصلة أحيانا، ولكنه كان يستخدمها مجتمعة في معظم الأحيان. على أنه حين كان يطبق هذه المبادئ لصالح شعبه كان يأخذ بالنظرية السياسية التي دأبت بريطانيا على اتباعها والتي عبر عنها أحد كبار الساسة البريطانيين بقوله »لم يكن للإنكليز أبداً صديق دائم ولكن كان لهم دائماً مصلحة دائمة«. وكانت المبادئ السياسية للأفغاني هي: 1ـ تنفيذ أفكاره من القمة لتحقيق إصلاحات داخلية ولمقاومة السيطرة الأجنبية. وكان يريد من خلال هذا المبدأ أن يقيم بلداً نموذجياً تقتدي به سائر البلدان الآسيوية والإسلامية. وهذا هو السبب في أنه أصبح وزيرا لأمير أعظم خان في أفغانستان. 2- استخدم فرنسا والمانيا كقوة ثالثة لتأييد نضال الآسيويين ضد بريطانيا وضد روسيا القيصرية. ومن ثم يعتبر الأفغاني مؤسس حركة عدم الانحياز. 3- إذا لم يكن ذلك ميسوراً محاولة الحصول على تأييد بريطانيا للأمم الشرقية لطرد روسيا القيصرية الإمبريالية من آسيا. 4- جعل روسيا القيصرية، كحل بديل، تساعد الآسيويين على طرد بريطانيا. وكان الأفغاني يود أن يطبق المبدأين الثالث والرابع لأنه كان يعلم أن البلدان الآسيوية والإسلامية لا تملك قوة عسكرية وفنية واقتصادية كقوة الغرب. وأن خير طريقة لمحاربة بريطانيا أو روسيا القيصرية هي الاستناد إلى نظرية »توازن القوى«. 5- وأهم مبدأ كان الأفغاني يعتمد عليه هو مبدأ الجامعة الإسلامية أو الوحدة الإسلامية. وكان دائماً مايريد أن يستخدم هذا السلاح ضد السيطرة الاستعمارية لتحرير المسلمين في آسيا وأفريقيا. ومن بين المبادئ الخمسة هذه التي اتبعها الأفغاني في حياته من أجل تحقيق التقدم للإنسانية كان المبدأ الخامس هو أهمها وقد شرع في تطبيقه في أواخر حياته خاصة عندما طلب منه الخليفة العثماني القدوم للعمل كمستشار في استانبول. وصل الأفغاني إلى استنبول في صيف عام 1892 يحدوه أمل كبير في التأثير بطريقته الخاصة على سياسة السلطان وتشكيل الجامعة الإسلامية. ومما تجدر ملاحظته في هذا الشأن أن خطة الأفغاني بشأن الجامعة الإسلامية كانت تختلف عن خطة السلطان. وقد رحب السلطان بالأفغاني عند وصوله ترحيباً حاراً، واستضافه في أكبر بيت من بيوت الضيافة السلطانية، وقرر له معاشاً شهرياً، وبيتاً خاصاً كمصيف، وعربة تجرها خيول ملكية، ووجبات يعدها له الطاهي الملكي. وشكا الشاه ناصر الدين من جديد عن طريق »ناصر الدولة« سفيره بالآستانة من دعاية جمال الدين ضده وهدد بأن إيران ستقطع علاقاتها مع الخليفة إذا ما أعطى للأفغاني منصباً كبيراً في الآستانة. وانتزع السلطان وعداً من جمال الدين بـألا ينشر أي شيء ضد ناصر الدين شاه أثناء وجوده في الآستانة. وأجاب جمال الدين بأنه كان ينوي أن يحارب الشاه حتى يوسده التراب، ولكنه صفح عنه طاعة للسلطان. وفي الآستانة واصل الأفغاني جهوده لتحقيق الجامعة الإسلامية، وهي الجهود التي كان قد توقف عنها أيام السلطان عبد العزيز حين اضطر لمبارحة مصر. إن الحرب التركية الروسية التي دارت رحاها في سنتي 1877 و1878، وفرض شروط في مؤتمر برلين، والاحتلال الفرنسي لتونس عام 1881، والاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، والاحتلال الروسي لـ »مرف« في 1884، جعلت الجامعة الإسلامية ووحدة المسلمين السلاح الوحيد الذي بقي للمسلمين ضد المستعمر. وتتضمن الوثيقة المرفقة رسالة كتبها الأفغاني للسلطان عن مشروع حركة الجامعة الإسلامية الذي كان يريد أن يحققه بنفسه. (انظر المرفق الأول). وهو خطاب في غاية الأهمية. لقد كان الأفغاني يريد أن يكون مبعوثاً للسلطان، وأن يقوم بدور كالدور الذي قام به أبو مسلم الخراساني من قبل وذلك خدمة لقضية الخلافة وقضية الوحدة الإسلامية. واقترح الأفغاني في الخطاب المذكور خطوات محددة لإثارة المسلمين في وسط آسيا. ويتضح من هذه الوثيقة أن الأفغاني بعد كل مابذله من جهود وبعد أن جرب عددا من المبادئ الأخرى لإنقاذ المسلمين والبلدان الشرقية من السيطرة الاستعمارية، كان يريد أن يستخدم الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، مشدداً على ضرورة الجهاد. وخطة الأفغاني كما وردت في هذه الرسالة وكما بين نكي كيدي خطة ثورية بدرجة تفوق ماكان يفكر فيه السلطان. وكانت تقوم على تاريخ الإسلام والمسيحية وعلى معرفته الخاصة بشعوب أفغانستان وبلوخستان والهند وآسيا الوسطى. ويقول الأفغاني في هذه الرسالة »سأدعوهم إلى الانتقام وأثير حمية عنصرهم التركي وأحمل راية وحدة الإسلام على كتفي وأدعو للجهاد ولن أغفل في الوقت ذاته عن أي خطة أو تدبير. وسأبذر النظام والحماسة فيهم وأعمل دائماً مع أحكم العلماء«. وقد ضمن الأفغاني رسالته نقداً للأمراء المستبدين والحكام الطغاة وقال إن الناس على استعداد للحرب دفاعاً عن عقيدتهم أكثر من استعدادهم للحرب من أجل أمثال هؤلاء الرجال. لقد كان الأفغاني يريد إصلاح العالم الإسلامي وأن يحيي مبادئ الإسلام القديمة. وكان يرى نفسه دائماً وأحدا من علماء المسلمين الكبار، كالغزالي والخراساني وابن خلدون. وكان هذا الأخير زعيما دينياً عربياً يحلم كالأفغاني بإعادة مجد الإسلام، ولكنه توفي في مصر دون أن يحقق حلمه. وعندما كان الأفغاني في مصر كان يكثر من التردد على قبر ابن خلدون ويؤكد لروحه أنه سينجز ما أراد أن يحققه في حياته. ومن الشخصيات البطولية الأخرى التي كان الأفغاني يعجب بها شخصية »لوثر« زعيم البروتستانت الذي أرسى دعائم التقدم الأوروبي والثورة الأوروبية من خلال إصلاحات عديدة وعن طريق إحياء المسيحية. وكان الأفغاني يؤمن بإحياء الإسلام وإصلاحه. وتحقيقاً لهدف توحيد العالم الإسلامي كتب أكثر من 500 خطاب باسم الخليفة إلى جميع زعماء الدين وحكام المسلمين. وقد تلقى رسائل رداً على رسائله مع هدايا للخليفة. وكان من هذه الرسائل من الأمير عبد الرحمن ملك أفغانستان. وقد سر السلطان عبد الحميد بهذه الردود أيما سرور وبلغ من سروره أن قبّل جمال الدين الأفغاني. وأجاب الأفغاني بأنه يريد أن يصنع منه خليفة عظيماً ليس له مثيل في التاريخ. ولكن ما أحرزه الأفغاني من نجاح كبير جعل نار الغيرة تدب في قلب »أبو الهدى« فعمل بالتعاون مع بعض الإيرانيين ومع البريطانيين على إيغار صدر السلطان عبد الحميد عليه. فأوقعوا في روعه أن الأفغاني يريد السلطة لنفسه. وهذا القول عار عن الصحة، لأن الأفغاني كان يرفض المناصب دائماً كما كان يرفض المراكز والنياشين، بل رفض عرش السودان. وكان عبد الله النديم، الوطني المصري والكاتب والخطيب والمهيج، من تلاميذ الأفغاني، وكان يساعد جمال الدين في نشاطه بالآستانة. وطلب الأفغاني من علماء في إيران والعراق أن يوالوا السلطان. وقبل بعضهم ذلك كما فعل »الزنجاني« ومع نجاح الأفغاني وزيادة نفوذه في بلاط الخليفة زادت غيرة »أبو الهدى« فسمم أفكار السلطان تجاه الأفغاني.وفي الوقت ذاته حدثت أحداث جديدة كثورة الأرمن والأتراك الشبان في الجيش، ونسب أبو الهدى ذلك إلى الأفغاني . وحين ذهب خديوي مصر الجديد عباس حلمي إلى الآستانة زار الأفغاني فانتابت السلطان نوبة شك في أمر هذه الزيارة. وساعد الأفغاني عبد الله حارس المدينة على الاختباء في بيته وبعث به إلى مصر مع عباس حلمي. وأثار ذلك سخط ولي العهد العثماني عليه. وتكاتفت جميع هذه العوامل، بالإضافة إلى دس »أبو الهدى« لتخلق جواً من عدم الثقة بين الخليفة والأفغاني. وفي عام 1896 تناهت إلى الآستانة أنباء عن قيام »مرزا رازه« تلميذ الأفغاني باغتيال ناصر الدين شاه. فوضع هذا الحدث نهاية العلاقات بين السلطان والأفغاني. وأمر السلطان الأفغاني بأن يلزم بيته وكتب الأفغاني خطاباً إلى السفير البريطاني في الآستانة يطلب منه الحماية باعتباره مواطناً أفغانياً، وتلقى وثيقة بهذا المعنى ولكنه غير رأيه فيما بعد بشأن مبارحة الآستانة. لقد كانت الحكومة الإيرانية تريد أن تعتبر الأفغاني مسؤولا عن اغتيال ناصر الدين شاه. وأنكر الأفغاني في حديث له مع صحيفة »لوتان« أنه قام بأي دوره فيما فعله »ميرزا رازه« غير أن السفير الإيراني بالآستانة أصر على تسليم جمال الدين وثلاثة من أتباعه هم »ميرزا أغاخان كرماني« و»الشيخ أحمد روحي« و»خبير الملكي« ورفض السلطان عبد الحميد تسليم الأفغاني استناداً إلى جنسيته ولكنه وافق على تسليم الإيرانيين الثلاثة. وأعدم هؤلاء لدى وصولهم إلى تبريز. وبعد ذلك أرسل السفير الإيراني بالآستانة برقية إلى طهران يطلب الأذن لتحريض بعض الإيرانيين المقيمين في الآستانة على قتل الأفغاني. ولكن مظفر الدين شاه كتب بخط يده في هامش هذه البرقية »يبدو لي أن هذا عمل خاطئ«. وأيا كان الأمر، فلم يكن هناك بعد مايسوغ الخوف من الأفغاني. فقد اتضح من كشف طبي أنه مصاب بالسرطان. وأراد الأفغاني لدى تلقيه تقرير الطبيب أن يسافر إلى فيينا للعلاج أو أن يرى طبيباً فرنسيا، ولكن الخليفة رفض كلا الطلبين، ولم يسمح برؤيته إلا لطبيب القصر وأجرى له هذا الطبيب عملية جراحية أزال فيها فكه الأسفل كما خلع أسنانه. وكان هذا المناضل العظيم، صاحب الرسالة السياسية العالمية السامية من أجل شعوب الشرق المستعمر، يرقد في نهاية حياته عاجزا في القفص الذهبي الذي أودعه فيه الخليفة. وأغمض عينه عن هذه الدنيا وهو في أحضان خادمه المسيحي قوجي كوشرو كان ذلك في ظهر التاسع من مارس/ آذار 1897. وكان نسيم البوسفور يقبل وجهه بلطف وكان صدى آذان صلاة الظهر من مئذنة جامع أيا صوفيا يتردد في سماء الآستانة الصافية. ودفن الأفغاني في هدوء في مقبرة علماء الآستانة. وخلال مراسم الدفن أنشد صديقه القديم »برهان الدين بلخي« الأفغاني، قصيدة رائعة تثير المشاعر. وكما قلنا من قبل فإن المستشرق الأمريكي جرين أعاد بناء هذه المقبرة وذلك قبل أن تنقل رفات جمال الدين إلى وطنه الحبيب. إن ما أنجزه الأفغاني لم يكن كثيراً. ولكن ما أن وافته المنية حتى آتت البذور التي زرعها في جميع أنحاء الشرق من البنغال إلى الأطلسي ثمارها. فسرعان ما تولى تلامذته في جميع أنحاء الشرق مناصب القيادة. وفي بلده أفغانستان، وبعد 22 عاما من وفاته، تحقق على يد »محمود ترزي« تلميذه، من خلال الأمير أمان الله مالم يتمكن هو من تحقيقه عن طريق الأمير أعظم خان. وقد زار الأمير أمان الله مصر في طريقه إلى أوروبا عام 1927 وأشاد بفضل الأفغاني على الشعب المصري والعالم الإسلامي. كذلك أبلغ أرملة سعد زغلول، زعيم مصر، الذي كان من تلامذة الأفغاني، تعازيه في وفاة زوجها. وفي تركيا سار »نامق كمال« على درب الأفغاني وتلامذته وفي عام 1905 وحتى عام 1911 أجرت إيران إصلاحات دستورية. وفي الهند أصبح الأفغاني الرائد الروحي لإقبال وأبو الكلام وغاندي و»راجا مهاندار باراتاه« وما من شك في أن الأفغاني كان أعظم مدافع عن العالم العربي، وكان رائد التضامن الآسيوي . ونظراً لأفضاله العديدة، فإن شهرته في العالم الإسلامي وفي دول الغرب لا تفتأ تتزايد، وكل بلد آسيوي يعتبره من أبطاله الوطنيين. وقد أسدى لجميع هذه البلدان خدمات عظمى. والأفغاني رغم أنه ولد في أفغانستان، ينتمي إلى العالم الإسلامي بأسره. لقد كان شخصية فريدة من نوعها ونجماً لامعاً بزغ في سماء الدول الإسلامية المظلمة في القرن التاسع عشر. وأنا لا أظن أن رجلا واحدا قد فعل بيديه المجرديتن، في أي فترة من فترات التاريخ الآسيوي، من أجل الحرية ومن أجل صيانة الكرامة الإنسانية أكثر مما فعله الأفغاني. لقد مات عن إسم كبير وعن أعمال جليلة. ولقد كتب الشاعر الهندي طاغور قصيدة جاء فيها مايلي: »استمع إلى صوت الغيوم، أيها القلب تشجع، شق الطريق وامض إلى المجهول«. لقد عاش جمال الدين الأفغاني شجاعاً، وقلبه كذلك غادر دنيانا بشجاعة إلى عالم الخلود. سلام على هذا البطل الشرقي العظيم. وقد تم الإتيان بجثمانه من الآستانة وبني له مقام في جامعة كابل عام 1944. وكاتب هذا المقال، الذي كان طالباً يومها بجامعة كابل، كان في الليلة السابقة ليوم دفنه يقف إلى جانب نعشه، احتراما لروحه الطاهرة. المرفق الأول رسالة موجهة إلى السلطان عبد الحميد بشأن الوحدة الإسلامية([1]) إلى ركن المملكة والرعية الركين، وحصن الحكومة العلية السرمدية الحصين، فخر الجنس العثماني وروح وجسد جميع المسلمين، وقطب الدولة الفخيم: أرفع بعد التعظيم: لئن كان بعض رعية الباب العالي قد ظلموا العبد الفقير، وسلكوا طريق الإعنات، فإنني لم ألق من الملة عنتاً ولم أذق من الإسلام تجبرا. وإذا كنت أحسب بعض الملة، وبضعة من الأمة، فلا ريب أني إن نزلت بهم غمة، أو شاكتهم من الذل شوكة، أصبر نفسي على الفدية، وأوثر منيتي على حياة الدنية. ثم أني حين نظرت إلى حال الحكومة العثمانية العلية، في هذا العصر، وحين تأملت أوضاع الملة الإسلامية، شققت قميص الصبر، ودهمني مخوف الأفكار والرؤي من كل صوب. ورحت كمن مسه من الهول مس، أتفكر في هذا الأمر آناء الليل وأطراف النهار، جاعلا من سبيل صلاح هذه الملة ونجاتها دعواي وتعويذتي. وتلمست سبيل الخلاص من هذه الشدائد العبوس، فتدارست أحوال الأمم الغابرة والدول الدابرة، وعلة صعودها وزوالها، وطلوعها وأفولها، ونظرت فيما صدر من عظيم الفعال من أفذاذ الرجال، أهل الإعظام والإكبار: فمرت بخاطري سيرة أپي مسلم الخارساني، الذي استطاع بسمو القصد، وفائق الحذق، أن يجتث الأصول والفروع من دولة كبني أمية، في أوج سلطانها وشموخ عزها، ومرغ في رغام الهوان شم أنوفها. كما أني حين أجلت في هذا المجال خاطري، تمثلت أمامي سيرة بطرس الراهب، ورأيت غيرة ذلك الناسك المعدم، وعزيمة ذانك الراهب المفلس، كيف حمل صليبه على ظهره، وراح يعبر الصحاري والجبال، ويدخل مدينة من مدن الفرنجة إثر مدينة. رافعاً عقيرته في كل مملكة، أن »حي على المعركة«، حتى كان للحروب الصليبية سبباً، ولتكلم الأهوال مفتقاً، فاشتعل في صدري لهيب الحماس، ووجدتني إزاء تفاني الخراساني وحذقه، أحرم على نفسي طيب العيش ودعته. وعلمت أن استعصاب الصعب لا يتأتي إلا من خسه النفس، ولؤم الطبع، وأن الصعب يستحيل سهلا عند أولي العزم، وإن كل شدة مقبولة عند ذوي الفحولة. ولما كان قطب الدولة الأفخم (أي المخاطب) شهوداً له في كل الأقاليم بكمال العزم، ويجري مديحه على جميع ألسنة الخلق في كل مصر، واختار حب الملة. ورأى شرفه في بقاء الأمة المقدسة. فأني سأفصح بملء الحرية عن خواطري فخامتكم، غير مبال بأني إنسان همل مغمور. وأن فخامتكم أمير مشهور. لأن حكماء هذا الدهر، في أمور خدمة الملة، وحب الدولة، لا يعبأون بالرتبة، وإنما الغايات هي دائماً مقصدهم. حيثما وجدت، وعن أي قوس نزعت. وتلك هي خواطري أولاً: بما أن جل مسلمي الهند بأعدادهم الغفيرة يملكون الأراضي والثروة والوفيرة وهم ثابتون على الإسلام متفانون في الدفاع عن الملة والعقيدة. على نحافة الأپدان ومع أن هؤلاء الأغنياء يتيهون فخراً بالعدالة والتسامح ويسرهم العطاء، خاصة لنصرة العقيدة السمحاء ويطلبون المجد في سبيل الله، وحماية الدين الحق، فإنهم مع ذلك ناموا نومة الغفلة، واستلقوا على أسرة الجهل. ولم يفقهوا فوائد الوحدة والانسجام، ولم يفقهوا الخطر الكامن في الفرقة والاختلاف. ولذلك يرغب الفقير إلى ربه (أي أنا) حباً في ملة الإسلام في التوجه إلى تلك الأصقاع للالتقاء بكافة النواب والأمراء والعلماء والأعيان، وإطلاعهم فرداً فرداً على النتائج التي تحققها الوحدة والتضامن في العالم أجمع، والأضرار التي أسفر عنها التفرق والانقسام، وتلاوة الحديث الشريف »إنما المؤمنون أخوة« على أسماعهم، وبالعبارات السامية والمتزنة أحدثهم، وأحطب ود العارفين والبلغاء منهم بغية تأمين تعاونهم. ولنفخ روح جديدة من الوطنية فيهم ورفع ستار عدم الاكتراث المسدل عليهم. وإظهار مكانة السلطنة النيرة في عالم الإسلام، سأوقد سراجاً في كل مسجد من مساجد المدن المشهورة عن طريق إلقاء الخطب المؤثرة وتلاوة الأحاديث النبوية الصحيحة. وسأوفد جمعاً من أفصح العلماء فيهم إلى بعض المدن النائية وأدعو جميع المسلمين في الهند إلى المساهمة بأموالهم، وسوف لا أتبع سبيلاً غير هذا، دون التعرض لسياسة الحكومة الإنكليزية أو التفوه بكلمة ضدها. بل إنني سأقيم دعواي على أساس نوايا الروس (المعادية للمسلمين) وسأپذل في هذا الشأن جهدي وليس هناك من شك في أن »الطائفة« الإنكليزية ستسعد لهذه الحركة التي ستكون سبباً في كراهة الهنود للروس، ومن الجائز أن الانكليز، عندما يدركون أن هذه الحركة تتمشى مع سياستهم سيشجعون الهنود على المساهمة مالياً، وسيصبحون طرفاً في هذه القضية فعلياً. وعندما تنطلق هذه الحركة في الهند ستكون لها مزايا عديدة: أولا، أنني لا أشك في أن تتدفق المساعدات المالية. ثانيا، ستقوم صداقة متينة وتعاون وربما وحدة إسلامية تامة، ثالثا، عندما يدرك الإنكليز وحدة المسلمين سيتوخون بطبيعة الأمر سياسة دعم واضحة تجاه الحكومة العثمانية، رابعا، هناك نقطة دقيقة لا تخفى على ذوي الفطنة (ألا وهي إحياء الإمبراطورية الإسلامية واتساع رقعتها في ظل قيادة السلطان). ثانياً، أود بعد الفراغ من المسألة الهندية أن أذهب إلى أفغانستان وأن أدعو شعب تلك البلاد، الذي لا يرهب البتة الفداء ولا يرضى بالتردد في حوض غمار الحرب ولاسيما خوض غمار الجهاد المقدس، إلى نضال ديني ومجاهد قومية. وسأشدد على مقاصد روسيا وأبلغه بلسان فصيح أنه إذا أصابت الإمبراطورية العثمانية، لاسمح الله، مصيبة، فإنه لن يبقى لمكة باقية ولا للمدينة هيبة – بل لن تقوم لاسم الإسلام ولا لشعيرة من شعائر الدين قائمة، ثم أنهم بعد ذلك لن يسمعوا صوت المؤذن ولن يروا قارئاً للقرآن. وسيكونون أذلاء كيهود بخارى أو كالغنم دون رعيان فريسة للذئاب الجشعة. سأرفع نداء »حي على الجهاد« وأصيح »يا للتضحية في سبيل الإسلام« وسأرسل العلماء الفصحاء الراسخين في العلم إلى كل الناس، إلى الوديان والجبال، وسأعقد الأحلاف مع الأمراء والأشراف والمحاربين والخانات، وسأوضح، في كافة الخطب الدينية، مزايا الحماسة والغيرة وسأدعو الجميع إلى الحرب القومية، شباباً وشيباً، ضعافا وأقوياء، وسأرسل بعض العلماء المحنكين المتمرسين الحكماء سرا إلى (خوقند؟) وبخارى يشرحون الظروف لأهل تلك الأصقاع ويحذرونهم بوقت وساعة وحلول المدة (وهي الكلمات التي غالباً ما تستخدم للتبشير بمجيئ المهدي). وبعد الفراغ من الدعوة في أفغانستان سأذهب إلى بلوخستان على جناح السرعة وسأدعو أهل تلك البلاد الذين يعكفون على قطع الطرق والإغارة على القوافل والذهب، إلى (الانضمام) إلى الحرب الشاملة، بإيقاظ شعورهم الديني وإغرائهم بالكسب الدنيوي وسأسعى جاهداً لاستخدام ميزات الدبلوماسية المعروفة منذ القدم معهم. ثم سأجعل وجهتي التركمان أولئك التعساء الذين عرفوا دائماً بالشجاعة والإقدام، إلا أنه في الآونة الأخيرة اعتمروا قبعة العار ولبسوا قميص الخزي، وذروا سمعتهم التليدة مع الريح وخضعوا ولأوامر روسيا، وسأدعوهم إلى الانتقام وسأثير فيهم افتخارهم بعنصرهم التركي. وأحمل لواء الاتحاد الإسلامي على كتفي في تلك الأقاليم أيضا، وأدعو إلى الحرب بإسم الدين، وكالعادة لا أغفل عن أية حيلة أو خدعة، وأغرس بذور الغيرة والحماس في نفوسهم، وأعمل دائماً مع أحكم العلماء. وسأوفد مبعوثين ذوي ألسنة حداد، إلى كاشغار وبارقند لدعوة المؤمنين في هذين الاقليمين إلى تحقيق الوحدة فيما بين الأمة المؤمنة. وبديهي أنه عندما يشرع الشعب في الحرب، فسيضطر الأمراء إلى خوض غمارها دون تأخير. ولما كنت أعرف عادات تلك الشعوب وأمزجتها، ولي دراية بطبائعها وعوائدها. فإنه لا يساورني شك في أن كل المسلمين ستدفعهم الحمية إلى مهاجمة الروس، ويهزمون الروس في هذه الناحية، بل ويهلكونهم عن بكرة أپيهم. ولا أحد ينكر ما يترتب على هذا العمل من مزايا فورية ومن جدوي في المدى البعيد، تتمثل في تحقيق الاتحاد الإسلامي والاتفاق بين الأمة. وبالإضافة إلى ذلك، حين يقوم الشعب الأفغاني، وهو في الحقيقة متارس ودعامة الهند، بمهاجمة الروس، فلن يلبث الإنكليز أن يكرسوا كل جهودهم، حتى وبالضرورة، من أجل الحرب، وسينغمسون فيها إلى ذقونهم. ويكفون عن التفكير في الهيمنة (ثمة تلبيس – ربما كان متعمدا، بأن الروس أو الإنكليز، أو بالإيحاء الضمني، كليهما سيشغلان بهذه الحرب إلى حد التخلي عن محاولات الهيمنة على المسلمين والعثمانيين). فإذا اعترض أحد على هذه الخطة قائلا: أليس أهل كوكان وبخارى وشهري سبابز والتركمان هم الذين فترت همتهم فلم يقاوموا الروس، وهم الذين خرجوا بعد الهزيمة من ميدان القتال، وفضلوا الحياة الذليلة على الموت الكريم، وهم الذين جلبوا العار، أي نفع ينتظر من مساعدتهم فأجيب قائلا: أن تلك الحروب التي جرت كانت جميعها لصالح أمرائهم الطغاة أو حكامهم البغاة، ومتى كان الرجل يقبل على التضحية بنفسه من أجل هذا الأمير أو ذاك الحاكم وملذاتهما الحسية، علام يثبت القدم ويبرهن على شجاعته في ميدان القتال؟ أما وأنهم أن حاربوا دفاعاً عن دينهم وصوناً لعقيدتهم، فإنهم لخليقون إما بتاج الشهادة ينير جباهم، وإما برداء الشرف يزين صدورهم ، لأن كلا منهم سيتقدم عندئذ لميدان القتال ويبادر بالهجوم دفاعاً عما يحب فقط وإعلاء لكلمة الدين. وبعد أن عرضت الخطة، أود أن أؤكد مع عظيم الاحترام أن العبد الفقير لا يبتغي من الحكومة الدرهم أو الدينار بل سأتصدى لهذه القضية المحفوفة بالأخطار في دين الإسلام. وقد يرى البعض في مهمة بهذا الرزن وتلك الأهمية جراءة وعملاً غير مقبول. كما أن هذه الأصقاع عن مركز السياسة نائية وأهلها مقطوعو الصلة بأخبار العالم وبالحكمة السنية، فإذا اضطلعت بهذه المهمة بدون تفويض، ربما لا تجد آذانا صاغية لدى أمراء هذه البلاد، وبدلاً من التماس الوحدة فقد يثور الشقاق. وعليه، التمس أن تنظروا في هذه الرسالة بعين العطف وأن تزن بصيرتكم الثاقبة ما ورد بها من اقتراحات واحدا واحدا دون النظر إلى أن كاتبها عبد فقير لا يشغل مركزاً رفيعاً ولا يتبؤا منصباً سامياً، لأنه لا يخفي على عظمتكم أنه في كل عصر تصدر أفعالاً كبار عن شخص مثلي يتجول مرتدياً خشن الثياب، وقد خبر شدة البرد ولفحة القيظ ومر الحياة وحلوها وعبر الجبال والفيافي القفار وتمرس بمعرفة أحوال البشر. أما أصحاب المراكز والجاه والثروات فإنهم يخشون ضياع هذا العرض ولا يستطيع تحمل الصعاب أهل الترف. فإذا صادف طلبي قبولاً من صاحب الرأي الصائب والعظمة وسيد الحكمة والنباهة وأعطى العبد الفقير خطاب تفويض بتصريح لا لبس فيه، فبإمكاني أن أشرع في العمل على جناح السرعة قبل فوات الأوان. وإني لعلى استعداد لأن أضحي بحياتي في هذه الساحة لصالح ملة الإسلام. ولا غنى للعبد الفقير كيما أتلقى التعليمات عن الحضور إلى الأستانة العلية. وكلي خضوع للأمر. لصاحب الأمر. تواريخ هامة في حياة جمال الدين الأفغاني 1838ـ ولد في »شير جارح« كونار، أفغانستان. 1844ـ غادر كونار إلى كابول. 1855ـ سافر إلى الهند ثم إلى مكة. 1860ـ عودته الأولى إلى كابول أثناء حكم »دوست محمد خان« 1862ـ غادر أفغانستان. 1866ـ عاد، للمرة الثانية، إلى أفغانستان. 1866ـ قابل الأمير أعظم خان في كنداهار 1867ـ وصل إلى كابول مع الأمير أعظم خان. 1869ـ غادر كابول إلى الهند ثم إلى القاهرة ثم إلى الآستانة 1871 ـ 1879ـ وصل إلى مصر وكتب تاريخ أفغانستان 1879 ـ 1882ـ سافر إلى الهند وكتب المقالات والرد على الدهريين. 1882 ـ 1885ـ سافر إلى الولايات المتحدة وإلى انكلترا وإلى باريس. 1886ـ غادر لندن عن طريق »بوشهر« إلى إيران 1887 ـ 1888ـ غادر إيران إلى روسيا القيصرية 1889ـ غادر سانت بطر سبرغ إلى ألمانيا 1889 ـ 1890ـ عاد إلى إيران 1890ـ طرد من إيران 1891ـ وصل إلى لندن 1892ـ غادر لندن إلى الآستانة 9 مارس / آذار 1897 ـ وفاة جمال الدين 1944ـ أعيدت رفاته إلى أفغانستان