حقوق المسلمين وواجباتهم في الأقطار غير الإسلامية أ.د. وهبة مصطفى الزحيلي عضو المجامع الفقهية العالمية جامعة دمشق ـ كلية الشريعة تقديم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله الكرام، والصحابة الأخيار، والتابعين لهم بإحسان، وبعد: يؤسفني أشد الأسف ما آل إليه حال المسلمين من ضعف وتفرق وتخلف، أدى إلى بحث أحوال وأوضاع المسلمين في الأقطار غير الإسلامية، لمعرفة حقوقهم وواجباتهم ومشكلاتهم، بعد أن كان السائد في الفقه الإسلامي بحث أحوال غير المسلمين في البلاد الإسلامية، لأن هيبة الدولة الإسلامية وعزتها ومكانتها كانت تنعكس على المسلمين وغيرهم في داخل دار الإسلام وخارجها، ولأن فقهاء الإسلام أبانوا ضوابط أحكام غير المسلمين في دار الإسلام فيما يتعلق بهم، وفيما يملكون النظر فيه، أما أوضاع المسلمين وأحكامهم في غير دار الإسلام، فلم يتكلم فيها فقهاؤنا، لقلة أو ندرة القاطنين في بلاد غير المسلمين، فلم تكن هناك مشكلة تستدعي البحث إلا في زمننا. وفي وضعنا الحاضر لا نلمس في الغالب الاحترام اللائق للمسلمين، لا في ديارهم ولا في ديار غيرهم، فتغتصب أراضيهم، وتحتل بلادهم، ويمارس المحتلون فيها ألوان المهانة والذل والخسف والجور على المسلمين تشفياً وتعصباً، وتنكراً لمقدساتهم، واستخفافاً بوجودهم. وهذا ينعكس بنحو واضح على نظرة الشعوب غير الإسلامية ودولهم، للمسلمين المقيمين أو المستوطنين بل المولودين في البلاد غير الإسلامية، فيعتدى عليهم وتمتهن حقوقهم، ويعاملون معاملة ليست كريمة، ويوصفون بكل وقاحة بأنهم جماعة من ((الرعاع)) الأدنياء الذين لا يستحقون أي تكريم، أو معاملة مساوية لمعاملة المواطنين الأصليين من أتباع دينهم أو نحلتهم أو مذهبهم. واستدعى هذا الوضع الشائن ضرورة البحث في حقوق الأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية، وهو الأهم، أما الواجبات فهي حكماً وبقوة القانون الداخلي مرعية من المسلمين، وهم صامتون إلا إذا تجاوز الأمر حدوده الطبيعية، وتعرضوا للمعاملة القاسية، كما حدث في فرنسا في أواخر عام 2005م، وكذلك في غيرها من الدول الشرقية والغربية. وإذا كانت الدول الغربية تحرص على حقوق الإنسان، فإن ذلك مقصور في الواقع على رعاياهم، أما غير رعيتهم فالأمر معكوس نظرياً وواقعياً، ولا سيما في حال تدخلهم بشؤون العالم الإسلامي، مما أثار مشكلات كثيرة أمام غير المسلمين القاطنين في الأقطار غير الإسلامية. وهذا يقتضينا ضرورة تفعيل موضوع حقوق الإنسان بنظرة شمولية وعالمية، لا بمجرد شعارات بالنسبة للمسلمين ولغير المسلمين في الأقطار غير الإسلامية. والبيان في هذا يصبح ضرورياً أيضاً، لأننا نعيش في ظل عولمة إعلامية مزيفة وكاذبة وخادعة، ولا بد من كشف حقيقتها، مع ضرورة توفير الكرامة والاحترام للمسلمين في غير ديارهم. وأقصر بحثي هنا على بيان حقوق المسلمين وواجباتهم في الأقطار غير الإسلامية على النحو الآتي: 1- الحقوق والواجبات الفردية. 2- الحقوق والواجبات الدينية ( العبادية والثقافية ). 3- الحقوق والواجبات الاجتماعية ( السياسية، الاقتصادية، العلاقات الاجتماعية ). وأصول البحث تعتمد من الزاوية الإسلامية على مفاهيم: دار العهد، والمواطنة، ومبدأ المعاملة بالمثل، وقواعد الشرعة الدولية التي لا تتصادم مع الشريعة الإسلامية، وضرورة احترام القوانين المحلية لكل دولة، والمتعلقة بالأمن والأمان، والانضباط والنظام، ومراعاة كرامة الإنسان. وأبدأ بمعونة الله في بيان عناصر الموضوع: 1- الحقوق والواجبات الفردية: إن منطق المواطنة يقتضي معاملة جميع المواطنين معاملة واحدة، تحقيقاً لمبدأ الاستقرار والوئام، والتفاهم والتعاون، وتشجيع روح المبادرة والعمل الشامل للوطن بإخلاص ووفاء، وتقدير لجهود العاملين فيه، وبخاصة إذا قدَّم المسلمون الموجودون في بلاد غير المسلمين خدمات جلى للوطن، في مختلف المجالات سواء في المصانع والمعامل والوظائف الإدارية الخاصة والعامة، والخدمات الكثيرة وغيرها، ومن الظلم الفادح لأي إنسان أن تهدر حقوقه، وتهمل متطلبات حياته، وتستلب قدراته وطاقاته الفكرية والجسدية، ثم لا ينال ما يتمتع به غيره من ميزات ومنافع([1]). وكل حق يقابله واجب، فللمسلم مثل غير المسلم حقوقه، وعليه أيضاً واجبات مشابهة. وأهم حقوق الإنسان الفردية الأساسية: حق الحياة وحق الكرامة الإنسانية، وحق الحرية والتنقل، وحق المساواة. أما حق الحياة: فهو منطلق الحقوق الإنسانية كلها، وهو حق مقدس، والحفاظ عليه واجب حتمي، لأنه هبة من الله تعالى لعباده، باتفاق الشرائع السماوية والوضعية، حفاظاً على بقاء النوع الإنساني، وتعميراً للكون، وديمومة الحياة الإنسانية، والناس جميعاً فيه سواء، أياً كان دين الإنسان ومذهبه وأصله وانتماؤه، وتحضره أو تخلفه، أو قيمته ومركزه، أو علمه أو جهله، حتى الحاكم، وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في العاشر من كانون الأول ( ديسمبر ) 1948م على قدسية هذا الحق في المادة الثالثة منه، ونصها: «لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه ». ولم نجد في شرائع العالم قاطبة مثل النص القرآني الذي يعظِّم حرمة الدماء، ويحرم الاعتداء على الإنسان أو الحيوان بغير حق، ويجعل قتل إنسان بمثابة اعتداء على الناس كلهم، ويوجب تطبيق عقاب القصاص على القاتل عمداً، وذلك في قوله تعالى: ) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ([2]) كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ([3]) أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ( [ المائدة: 32 ]. وأما تشريع القصاص ( أي العقوبة بالمثل ) ففيه آيات، منها: ) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( [ البقرة: 179 ]. وقال الإمام علي t في رسالته لواليه على مصر: الأشتر النخعي : (( الناس عندك صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلْق )) ([4]). وأما حق الكرامة الإنسانية: فتقتضي ناحيتين إيجابية وسلبية، ففي الحالة الأولى: يجب توفير الاحترام التام لكل إنسان في خطابه ومعاملته بل حال اتهامه، وضرورة معاملته معاملة إنسانية كريمة، وفي الحالة الثانية: لا بد من العمل الإيجابي على منع التعذيب والضرب ولو في حال الاتهام، واجتناب وسيلة الانتقام والثأر ، والطرد بغير مقتضٍ قانوني أو جنائي، واجتناب الظلم والتعسف والإهانة والإذلال، والممارسات المنبوذة عرفاً وشرعاً وقانوناً، سواء في السجون والمعتقلات أوكل أنواع الإكراه على الإنسان أو الفحش، أو الفتنة الدينية بمحاولة تغيير معتقده، واستعباده أو تسخيره أو عمالته في التجسس وألوان الخسة والحطة والنذالة، لأن كل إنسان عزيز كريم بتكريم الله، وهو خَلْق الله وصبغته وصنعته، لقول الله U بنحو عام وشامل وقاطع: ) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ ( [ الإسراء: 70 ]. وهذا يشمل الحالة المدنية الداخلية وحالة السجن والأسر، والاعتقال والاتهام، والاحتلال([5]). وهذا التكريم يقتضي أيضاً الاعتراف بحق الإنسان في الدفاع عن نفسه وعرضه، وماله، ووطنه، وحقه في مقاومة العدو المحتل، والإقرار بحقه مع أهل وطنه في تقرير مصيره. وإن من أهم أولويات الدين ومقتضى الأخلاق والآداب الإنسانية معاملة كل إنسان معاملة كريمة تعود على الناس جميعاً بالخير، وتحقيق الآمال والمصالح المعنوية والمادية والدعوية، فقد انتشر الإسلام في المشارق والمغارب بالكلمة الطيبة، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالإقناع والبرهان، والحوار، لا بالإكراه أو السيف أو التهديد، ولا بمصادرة المال أو أخذه بغير حق، لأن العدل والرحمة والإحسان هي من أهم مقومات البناء الدعوي الإسلامي، والتمكين في الأرض، وتحقيق الاستقرار، وإشاعة الثقة والأمان، والاطمئنان والارتياح. وأما حق الحرية والتنقل: فهو ملازم لحق الحياة، ويكون التمكن من العيش الكريم، وتحقيق الحرية للفرد والجماعة والأمة من حقوق الفطرة الإنسانية النابعة من الذات الإنسانية، والموجودة بوصفها حقاً طبيعياً لكل إنسان منذ الولادة. وهذا يقتضي تمكين كل إنسان أو شعب من ممارسة الحرية والعيش في ظلالها، لأن مظلة الحرية ضرورية لكل إبداع وإنتاج، وكل مسيرة وسعي حميد، وإيجاد كل نظام صحيح في الحياة الاجتماعية. ولا فرق بين أنواع الحريات الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فكل إنسان يولد حراً وذا كيان مستقل، وأما التعاون بين الأفراد فهو ضرورة لتفعيل مقتضيات الحرية، وتحقيق الآمال العريضة والطموحات الواسعة. والحرية لها أنواع، منها([6]): 1- حرية الاعتقاد والتدين: ما لم تؤد هذه الحرية في الميزان الإسلامي إلى الحرابة وتحدي نظام الدولة العام، أو إلى الزندقة الهدامة بإعلان الإسلام ومحاولة نقض أصوله وعقائده، والتحريض ضده، وإثارة الفتنة والشكوك حول قضايا الدين. 2- حرية التفكير والعلم: الذي بمقتضاه تتقدم الأمة وتنهض نهضة قوية وسريعة، فيستعمل التفكير فيما هو مفيد، والعلم فيما هو نافع. 3- حرية التعبير والنقد البنَّاء: من أجل الوصول إلى تحقيق الخير والصالح العام، أو المنفعة العامة، لا أن يكون التعبير أو النقد بقصد الهدم وإشاعة الفساد، وإحداث البلبلة والفتنة، فتكون هذه الحرية مفسدة أو وسيلة تخريب، وهذا لا يوافق عليه أي نظام. ومن النصوص الإسلامية الفريدة المعبرة عن كل الحريات وأساسها الدين والاعتقاد قوله تعالى: ) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ( [ البقرة: 256 ] وقول عمر t: (( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً )). لكن الحرية المعتبرة هي الحرية المنضبطة الملازمة للنظام واحترام حريات الآخرين، وإلا كانت مرادفة للفوضى والتهديم، والخلل البنيوي الخاص والتركيبي العام، وهذا يعني أمرين: الأول- أن الحرية تنتهي حين تبدأ حريات الآخرين. الثاني- أن الحرية لا تنمو ولا تترعرع إلا في مظلة النظام أو القانون. والإخلال بالأمر الأول يعني الاعتداء على حريات الآخرين، وهذا ظلم مما يجعل الحرية تتناغم مع قاعدة العدل، والعدل أساس الملك والحياة. وأما الإخلال بالأمر الثاني فيؤدي إلى العصف بالحرية ذاتها، وتهديم بنيتها ونقض وجودها. إن نعيم الحرية لا يقدر بقيمة، والإحساس به والتفاعل معه أساس كل حياة عزيزة كريمة. وإذا حجبت الحرية أحياناً بغطرسة شخص أو نظام، فإنها ترتد على الظالمين بأقسى من مدلولها الطبيعي، وتكون أداة لتجميع القوى، ومقاومة الظلمة، والتعجيل بسقوط نظام الاستكبار والاستعلاء والظلم ومنه الاستبداد السياسي الداخلي، والاحتلال والعدوان الخارجي. والعقلاء أو الحكماء والفلاسفة هم الذين ينظرون نظرة مستقبلية واعية ومتأنية لكل سلبيات مصادرة الحريات، مما يوجب عليهم طوعاً أو كرهاً إعادة الحسابات، وهذا ما نلمسه بالفعل، حيث إن الأنظمة الاستبدادية وأنواع الاحتلال الغاشم سرعان ما تنهار، وتكون الهزيمة محققة وساحقة للمستعمرين كما شاهدنا ونشاهد الآن في أفغانستان والعراق، حيث إن النصر للشعوب المستضعفة والمقهورة في نهاية المطاف. وهذا يعني أن الحرية لا تقهر ولا تصادر، والأحرار لا ينهزمون، بل ينتصرون أخيراً. ومن مستلزمات الحرية: إعطاء الحق لكل إنسان في أن ينتقل من مكان إلى آخر، بحثاً عن موارد الرزق، وإحقاق الحق، وقهر الباطل، وتحطيم القيود والحواجز والسدود. والدليل الملموس في عالمنا أُفول ( غروب ) نجم الاستعمار الغربي والشرقي وطلوع شمس الحرية والاستقلال في آسيا وإفريقيا وغيرها من الأقطار التي نكبت بالاستعمار البغيض سواء في أمريكا اللاتينية، أو البلدان الشيوعية في آسيا الوسطى والشرقية. وأما حق المساواة: فيراد به في عرف الشريعة والقانون المساواة في الحقوق والواجبات، فلا تمييز بين الناس شرعاً بسبب العرق أو الأصل، أو العنصر، أو اللون، أو الجنسية أو الطبقية والفئوية ونحو ذلك، وهذا من مفاخر الإسلام([7]). يرشد إلى هذا قول الله تعالى: ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا.. ( الآية [ النساء: 1 ]، وقوله سبحانه: ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( [ الحجرات: 13 ]. ويوضحه حديث خطبة حجة الوداع الذي ورد فيه: [يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى..]([8]). والمساواة في الإنسانية وحقوق الإنسان عامة شاملة، تشمل الحاكم والمحكومين، والعالم والجاهل، والرجل والمرأة، والوطني والمواطن والأجنبي، وحالاتها النظامية كثيرة كالمساواة أمام القضاء، وتطبيق الأنظمة، وفي التوظف، وفي الدفاع، واستحقاق العقاب الواحد على الجرائم، والالتزام بالتكاليف العامة من ضرائب وغيرها، والانتفاع بالمرافق العامة. وأما الواجبات الفردية: فهي مستمدة من مبدأ أو قاعدة المساواة، فعلى المسلم المستوطن في قطر غير إسلامي واجبات مشابهة لواجبات الوطنيين الأصليين، من الالتزامات العامة للدولة، أو الالتزامات الخاصة في معاملة المواطنين، مثل أداء الضرائب والرسوم المستحقة للحكومة، وتوفير الاحترام للآخرين، والحفاظ على الأمن والأمان والاستئمان واحترام بنود العهد وواجبات المقيم في إقامته وعمله وعلمه، لأن العلم مشاع وحق للجميع، والعمل تتكافأ فيه الفرص بين السكان الأصليين والمقيمين والمتجنسين، وهذا ما تمليه القوانين والأنظمة المتحضرة، وهو عين ما قرره الإسلام في عهوده المتلاحقة. إن المسلم الداخل لبلد غير إسلامي، أو المقيم في بلد غير إسلامي يجب عليه احترام مقتضيات الإقامة وظروفها وأوضاع الحياة فيها، فلا يحل لمسلم مقيم في غير بلد المسلمين أن يخل بمقتضيات الأمن، ولا بأنظمة التعامل، ويستحق العقاب المقرر في أنظمة ذلك القطر على كل جريمة يرتكبها. لكن على المسلم ألا يعمل عملاً يتنافى مع أصول دينه، وأحكام شريعته، وآداب الإسلام، حتى يكون مثلاً حسناً، وأسوة طيبة لأداء الواجب، والتحلي بخصال الإسلام. ومن الخطأ الفاحش أن يرى بعض المقيمين المسلمين في بلاد أجنبية أن أموال وأعراض ونفوس الأجانب حلال يفعل فيها المسلم ما يشاء، وهذا عين الجهل والغباء والانحراف عن قواعد الإسلام، وقد سمعت مثل هذه الأقاويل والمزاعم من بعض أولئك المسلمين المقيمين في بلاد الغرب، وذلك لأن المعاملة بالمثل تقتضي الحكم نفسه، فكما أننا لو منحنا أماناً لغير المسلم في بلدنا، أصبح آمناً على نفسه وعرضه وماله، كذلك لو كان الأمان أو تأشيرة الدخول أو الموافقة على الإقامة أو التجنس الصادر من غير المسلم للمسلم، يصبح غير المسلمين آمنين من المسلمين، ولا يحل إيذاؤهم أو ترويعهم أو الإساءة إليهم، فهذا هو مقتضى الأمان الصادر من المسلم أو غير المسلم على حد سواء. فإن لم يتوافر الأمان أو الإذن بالإقامة، كان غير المسلمين محاربين، والحرابة تخضع أيضاً لقواعد المعاملة بالمثل، وحينئذ يعمل بما هو معروف دولياً وهو (( الإبعاد )) وهو الحكم ذاته المقرر في القرآن الكريم في آية: ) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ .. ( [ التوبة: 6 ] وإبلاغ المأمن: إيصال الشخص بأمان لوطنه أو أدنى حدود الوطن. هذه طائفة من الحقوق والواجبات الفردية التي ينبغي أن يتمتع بها المسلمون في أقطار غير إسلامية أو يلتزموا بها حال إقامتهم فيها. 2- الحقوق والواجبات الدينية والثقافية (العبادية والثقافية): أهم هذه الحقوق ما يأتي: أ- التعايش الديني والمذهبي والثقافي: على المسلمين المقيمين في أقطار أخرى الحفاظ على وجودهم وكرامتهم ومستقبلهم، وهذا يقتضيهم أن يتعاملوا مع سكان تلك الأقطار بنحو لا تصادم فيه ولا نزاع، ولا سيما فيما يمس دين أولئك الوطنيين الأصليين أو مذهبهم أو ممارسة شعائرهم، حتى لا يتعرضوا لنزاعات ومشكلات دينية، أو ثقافية، لأن مبدأ الإسلام حتى في دار الإسلام هو (( أمرنا بتركهم وما يدينون )) فمن باب أولى ألا نتعرض لما تتدين به الأقوام والشعوب الأخرى في ديارهم، إلا بمقدار الدعوة إلى الإسلام بالحسنى وبالكلمة الطيبة عملاً بقول الله تعالى: ) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( [النحل: 125 ] ([9]). وقولـه سبحانه بالنسبة لأهل الكتاب، ويشمل غيرهم: ) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( [ العنكبوت: 46 ]. فالجدال بالمعقول وبالهدوء يؤدي إلى نتائج طيبة ومنها قبول دعوة الإسلام، وأما الجدال بالشدة والعنف وتسفيه الآراء فيؤدي إلى الإثارة والكراهية، والنفور، والمطالبة بالطرد من الوطن، وربما الضرب والإيذاء، فيخسر المسلم مهمته الدعوية ويتعرض لمتاعب ومشكلات كثيرة، مما يقتضي ملازمة الاعتدال والوسطية والحكمة واللطف والدهاء والسياسة، والبعد عن المنازعات، واستثارة المشاعر والعواطف، وتألب أصحاب البلد الأصلي على الغرباء. ويؤكد ذلك سماحة الإسلام مع غير المسلمين سواء في ديار الإسلام أو ديار غيرهم. والاهتداء بالهدي النبوي في الدعوة الإسلامية العامة في دعوة الملوك والأمراء والزعماء إلى الدخول في الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة، لـه دلالته ومؤثراته ونفعه، وذلك في كتب النبي المعروفة لهؤلاء الحكام، وتضمين كل كتاب منها: ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( [ آل عمران: 64 ]. وعلى الرغم من أن الإسلام في هديه وعقيدته القائمة على الحق، وغيره على الباطل، كان تعليم القرآن للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في الحوار مع الآخرين المشركين في غاية الرصانة والكياسة والحكمة، وعدم التعجيل في تحقيق النتائج، وإنما فتح الباب أمام إعمال الفكر والعقل والتأمل في حقيقة الدين أو الوجهة الصحيحة، وذلك في قوله تعالى: ) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( [ سبأ: 24 ]. وكل هذا يدل بصراحة ووضوح أن غير المسلمين سواء في دار الإسلام أو دار الآخرين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فيكون لغير المسلمين من الحقوق ما للمسلمين، والواجبات أيضاً تكون سواء. والمذهب: أحد فروع الدين الذي يتمسـك به أصحابه ويصعب زحزحتهم عنه إلا بصبر طويل وحوار هادئ رصين، مما يوجب على المسـلمين عدم المسـاس به إلا على منهج متسم بالوعي والعقل والفكر والنقاش، دون الوصول إلى تأزم المواقف، وتألب أهل ذلك المذهب على المتدخلين في شؤونهم وأفكارهم. والثقافة كما جاء في معجم العلوم الاجتماعية وقاموس علم الاجتماع: هي استجابة الإنسان لإشباع حاجاته المادية والروحية. أو أنها تشمل نماذج الحياة الاجتماعية بأسرها: العائلية، والاقتصادية والدينية والأخلاقية والتربوية والجمالية والسياسية واللغوية والعلمية. وبكلمة موجزة: الثقافة: تشمل المعرفة والسلوك. والثقافة قريبة الشبه بالمذهب، والمذهب قريب الصلة بالدين، فعلى المسلمين الذين هم كالأضياف في غير بلادهم ألا يتورطوا في صراع أو نقاش حادّ في هذه المعتقدات الثلاثة: الدين، والمذهب، والثقافة، لأن في نزع الناس عن عاداتهم وتقاليدهم حرجاً عظيماً. ولكن مع هذا كله لا يأس أمام الدعاة الواعين والمصلحين في كل مكان، فيمكنهم هم لا الجهلاء، أن يزرعوا في نفوس الآخرين ما يحرك عقولهم للتأمل ومعرفة الخطأ، وعدم التمسك بالموروث الباطل من دين أو مذهب أو ثقافة، وربما يكون أبرز مثل لهذا أوضاع الهند ذات الديانات والمذاهب والثقافات المتعددة والمتأصلة في نفوس الهنود المتعصبين تعصباً. والمهم أن من واجبات المسلمين المقيمين في ديار غيرهم أن يكونوا في مبدأ الأمر أشد حذراً من الاصطدام بالتقاليد والموروثات والأفكار السائدة ذات الصلة بهذه الموروثات الثلاثة: الدين والمذهب والثقافة. ومن أهم مفرزات الدين: ممارسة الطقوس والعبادات التي تشيع في المجتمعات، وليس من الحكمة ولا المصلحة أن يهاجم المسلم عبادة الآخرين في بلدانهم، لأنها جزء أساسي في تكوينهم وتقاليدهم وعاداتهم، لأن الإقدام على نقد العبادة ومحاولة هدمها يؤدي غالباً إلى الثورة والغضب، وذلك يهدد حياة المسلمين في غير ديارهم، وينبغي على الداعية أن يتجه إلى تصحيح النظر إلى حقيقة الإله المعبود، بدلاً من التخطئة المباشرة للعبادة ذاتها. والمبدأ المقرر في الإسلام- كما تقدم - هو حرية الاعتقاد بموجب آية: ) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ( [ البقرة: 256 ]. هذه محاور بعض الأفكار التي تكون أساساً في الغالب للاحتكاك بالآخرين، ومن الواجب البعد عما يثير الفتنة أو يشعل نار العداوة أو سوء التفاهم بين المسلمين وغيرهم من السكان الأصليين، لأن الحكمة تقتضي المسالمة والاستقرار والبعد عن النزاعات قدر الإمكان، وتترك شؤون تبليغ الدعوة الإسلامية دعوة الحق والتوحيد والخير والمنطق والجمال والعدل والإحسان والرحمة والبناء والإيجابيات التشريعية إلى المختصين المهرة من الدعاة الذين يراعون إلى حد كبير البعد عما يثير أو يوقع في الأزمات والتشنجات والمشكلات الخانقة. وما أسوأ أن تقاد الجماهير بالغوغائية وأعمال العنف والإرهاب والتطرف، فذلك يؤدي إلى الضرر والشر والندم. أما الهدوء والتعقل وإثارة كوامن الفطرة السليمة، فهو المحقق للغاية، والمؤدي إلى السلامة وإشاعة الأمن وغرس الثقة والمحبة والطمأنينة في النفوس. وهذا الأسلوب الحكيم هو الذي أدى إلى انتشار الإسلام في جنوب شرقي آسيا وغيره، وكان الحصاد الطيب هو أسلمة إندونيسيا وماليزيا وغيرهما، وانتشار الإسلام في الهند، وغير ذلك من البلاد الشرقية. وكذا الحال في عصرنا في أوروبا وأمريكا وإفريقيا. وعلى المسلمين المقيمين في أقطار غير إسلامية ألا يتدخلوا في شؤون عبادات وأديان غيرهم، وأن يوفروا لهم الاحترام المطلوب، كما فعل الفاتحون للهند وغيرها. وأما حقوق المسلمين المقيمين في أقطار غير إسلامية: فهي لا تعدو أن تكون حقوقاً طبيعية ومنطقية. ففي مجال الدِّين: من حق المسلمين أن يتمتعوا بحرية العبادة وإعلان الإيمان والاعتقاد الحق بالقرآن ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وممارسة شعائرهم الدينية من أذان وإقامة وصلاة جمعة وجماعة، وصلاة أعياد، وأداء عبادات الصلوات الخمس والنوافل، والصيام، والزكاة، والحج، فليس في ذلك أي ضرر على الآخرين، لأن ممارسة العبادات الإسلامية لا تثير مشكلة لأحد، ولا تمس مصلحة أحد، ولا تتعارض مع أنظمة الحياة المختلفة، ولا تتصادم مع نظام الدولة والحكم أو التعامل في الأسواق، والقيام بالخدمات، وتأدية مقتضيات العمل أو الوظيفة أو المهنة، بل إن العبادات في الإسلام تهذِّب النفوس، وتعلِّم الأمانة وإتقان الأعمال وترك الغش والفواحش والمنكرات والعادات القبيحة. ويلاحظ أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يلتقي مع الإسلام في تقرير الحرية الدينية، في المادة ( 18 ) منه، ونصها: (( لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين... )) وأكد الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان هذا الحق في المادة العاشرة منه ونصها في الفقرة الأولى منها: ((حق الشخص في الدعوة إلى دينه الذي يعتنقه، وحقه في ممارسة العبادات التي تنص عليها العقيدة في بيوت العبادة عامة، وفي المساجد خاصة... )). وهذا مستمد صراحة من تشريع الإسلام، مما يدل على ثبوت حق المسلمين وغيرهم في ممارسة الشعائر الدينية، دون مساس من أحد أو اعتراض على تلك الممارسة، وهذه ظاهرة حضارية سامية سبق إليها الإسلام، ثم تقررت في العصر الحديث، فيكون للمسلمين بداهة الحق في ممارسة شعائر دينهم في الأقطار غير الإسلامية. 3- الاشتراك الثقافي والتعليمي والتربوي والوطني: يتطلب وجود المسلمين في بيئة غير إسلامية عملياً إقامة جسور مشتركة مع غير المسلمين في ثقافتهم الوطنية، ومعلوماتهم التاريخية والجغرافية والتربوية، وتلقي التعاليم القومية، وتعلم العلوم العامة، ومعرفة الأصول التربوية. وهذا يقتضي احترام هذه القواعد العامة، لإيجاد مناخ وطني علمي وتربوي، وضرورة المشاركة في الأعياد الوطنية والمناسبات التاريخية. لكن إذا كانت الثقافة في قطر غير إسلامي ذات اتجاه إلحادي أو علماني، فإن تحصيل الشهادات العلمية لا يتم بغير معرفة ذلك بحسب نظام التعليم([10]). ويبقى على المسلمين واجب أساسي في إيجاد مدارس خاصة لمدة يومين في الأسبوع لتزويد الناشئة بالثقافة الدينية الإسلامية، وتحذير النشء من الاعتقاد بما يتنافى مع تلك الثقافة أو يتصادم مع أصولها ومقاصدها وغاياتها. وإذا تعذر ذلك فلا بد من تعليم القرآن والإسلام واللغة العربية سراً في المنازل كما كان يفعل المسلمون في العهد الشيوعي في روسيا والصين ويوغوسلافيا. وإيجاد المدارس هو ما نجده قائماً بالفعل في أغلب الدول غير الإسلامية، حيث يتعاون المسلمون في بناء مدارس خاصة لأولاد المسلمين لمدة يومين هما عطلة في المدارس الرسمية. ويتعلم أولاد المسلمين الذكور والإناث في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي ما يحتاجون إليه، ولا سيما تعلم اللغة العربية، وتعلم القرآن، ومعرفة الأحكام الشرعية الضرورية لحياة المسلم، وغير ذلك من ألوان الثقافة الإسلامية العامة، لأن الحق في التعلم والتعليم والتربية من الحقوق الأساسية في تكوين العقيدة وتعلم أحكام العبادة ومبادئ الأخلاق والتربية القويمة، لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، كما جاء في الحديث النبوي، ولأن الإسلام يعتمد في تكوين عقلية المسلم على تعلّم العلوم الإسلامية وغيرها من علوم الحياة، لقوله تعالى: ) وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا( [ طه: 114 ]. ولأن العلم نور، وبه يميز المسلم بين العلم النافع والعلم الضار، وبالعلم يكتمل الفكر والعقل ويرتفع القدر الإنساني، والعلم أساس تقدم المدنيات وبناء الحضارات. وللعلماء منزلة رفيعة عند الله والناس، لقوله تعالى: ) يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ( [ المجادلة: 11 ]. وحق التعليم حق إنساني طبيعي، والحق أيضاً في التربية القويمة المتفقة مع أصول الإسلام ومقاصده حق أساسي بل واجب، لا يصح لأي مسلم إهماله أو تجاوزه، وإلا كان الوالدان والمجتمع المسلم مسؤولين مسؤولية أساسية عن التقصير في التربية والتعليم، قال الله تعالى: ) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا .
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ( [ الشمس: 9 – 10 ] أي قد فاز ونجا من نمّى فضائل نفسه، ورباها على الفضيلة والأخلاق القويمة، وخسر كل من أهمل تهذيب نفسه وأغواها. والتزكية: تنمية، والتدسية ضدها وهي نقص وإخفاء وبدائية في التربية والتقويم. وهذا الحق في التعلم والتعليم والتربية نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة ( 26 ) ونصها: 1- لكل شخص الحق في التعلم.. الخ. 2- يجب أن تهدف التربية إلى إنماء الشخصية إنماء كاملاً، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية، وتنمية التفاهم والتسامح، والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية، وإلى زيادة مجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام. وكل ذلك يشمل التعليم العام والتعليم الخاص، سـواء بالنسبة لأغلب المواطنين، أو للجاليات التي تقيم بينهم أو تصير مستوطنة في أي بلد إسلامي أو غير إسلامي. وأهم ما يتطلبه الحق في التعلم والتعليم والتربية بالنسبة للمسلمين في أقطار غير إسلامية: تعليم الأبناء والبنات أصول دينهم، وتربيتهم تربية قويمة، وتعويدهم على ممارسة العبادات ومعرفة الفرائض الإسلامية المختلفة، لأن الأولاد أمانة وعهدة عند والديهم، ويسأل الأبوان عن القيام بهذا الواجب أمام الله تعالى، لأن خزينة الفكر ورصيد العقل والنفس هو العلم والأدب أو الخلق الكريم، ولأن أساس رسالة الإسلام: غرس العقيدة والإيمان الصحيح، ومعرفة واجبات المسلم أمام ربه، وتنمية أفكاره، وتهذيب نفسه ومشاعره ولا يعفى المسلم من هذا الإعداد أياً كان مقامه، في بلد إسلامي أو غير إسلامي. وإذا كان المسلم غني الثقافة، وافر العلم، حصيف التربية، نفع أمته، ونفع المجتمع الذي يعيش فيه، حيث لا يصح بحال أن يكون المسلمون في أي مكان في العالم يعيشون على هامش الحياة، أو عالة على غير المسلمين، لأن قيمة كل إنسان بحسب ما يحسن أو بمقتضى ما يقدمه لغيره من علوم ومعارف، فيحصِّن نفسه من عيوب الجهل، ويوفرِّ لنفسه الاحترام والتكريم ورفعة المكانة والمنزلة في مجتمعه. 4- الحقوق والواجبات الاجتماعية ( السياسية، الاقتصادية، العلاقات الاجتماعية ): هذه الحقوق والواجبات أهم الأنواع، لأنها المؤشر القوي الدال على مدى التفاعل مع المجتمع، والدال على الصدق والإخلاص وتوافر الثقة، وعلى معرفة مدى الانسجام بين الجانبين: جانب الفرد وجانب المجتمع أو الدولة، فتعبر هذه الزمرة من الحقوق معبرة عن إمكان وجود الولاء أو عدمه، ووجود الوفاق أو التصادم والقلق والتأفف في العيش الدائم في البلاد غير الإسلامية، فالسياسة برهان واضح على ظاهرة الاسـتقرار أو عدمه، والاقتصاد معبر عن إمكان المعيشة والطمأنينة، والعلاقات الاجتماعية ميزان التفاهم والتقارب أو البعد والتباعد بين أبناء المجتمع الواحد. أما الحقوق والواجبات السياسية: فهي رمز الصلة مع الدولة الحاكمة، أخذاً وعطاء، ومنعاً وبُعْداً وفي مطلعها إمكان التجنس والمواطنة، لأن جنسية الدولة تعبر عن رابطة الولاء والانتماء والمواطنة والتبعية والإقامة الدائمة، ومنح حق التنقل واللجوء، وحق التقاضي للفرد أمام المحاكم الوطنية لرفع الظلم عنه أو الوصول إلى حقه. وهذه الحقوق الثلاثة تنظم علاقة الفرد بالدولة، وتحدد حقوقه فيها، وواجباته نحوها، وتقتضيها قواعد العدل والمساواة. وبما أن هذه الحقوق أنبتها الإسلام لغير المسلمين المستوطنين في الدولة الإسلامية، وتقررها مختلف دساتير الدول، فهي تثبت للمسلمين الذين يعيشون في أقطار غير إسلامية، لكن يثور في هذا إشكال وهو وجوب المشاركة في التجنيد الإلزامي والانضمام لجيش العدو، والمسلم لا يجوز لـه أن يقاتل في مظلة راية غير إسلامية؛ وفي هذه الحالة إن رفض المسلم الجندية فإنه يتعرض للسجن والغرامة المالية، وحينئذ يكون هذا العقاب أسلم وأنجى من مخالفة الحكم الإسلامي في ممارسة القتال لصالح دولة غير مسلمة ضد شعب مسلم أو غير مسلم. ولا يستحق هؤلاء المسلمون الذين وقع الظلم عليهم مناصرة إخوانهم المسلمين بسبب المعاهدة مع الدولة المسلمة، لقوله تعالى: ) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( [ الأنفال: 72 ]. وعلى المسلم واجب احترام أنظمة الدولة التي يقيم فيها، تعبيراً عن ولائه وانتمائه للدولة، وإخلاصه والعمل فيها، وعليه أن يتجنب بقدر الإمكان ما يكون مخالفاً لنظام الشريعة الإلهية، حيث إن كل إنسان حر في اختيار العمل المناسب له في أي مجال وجد فيه، فلا يعمل مثلاً في بيوت الدعارة أو الخمارات أو المراقص أو دور الخلاعة والفجور أو البنوك الربوية. ومن حقوق المسلم كأي مواطن، المشاركة في الانتخابات البرلمانية والترشيح للعضوية فيها، من غير حظر أو تمييز بينه وبين السكان الأصليين، أو المواطنين الآخرين. وإنني أفضل الإسهام في هذه المشاركة، لتحقيق المنافع الممكنة لبقية المسلمين المواطنين أو دفع الضرر عنهم، أو إزالة الحيف والظلم الذي يحتمل لحوقه بهم، أو للإسهام في الشورى والنظام الديمقراطي المعبر عن الحريات والمصالح المشتركة والشاملة لكل المواطنين([11]). ومن الحقوق السياسية للمسلمين في أقطار غير إسلامية حق التظاهر السلمي للتعبير عن الرأي والمطالبة ببعض الحقوق التي يتمتع بها غيرهم، وهم محرومون منها، أو لدفع ظلم أو غبن، أو مصادرة حق، أو اعتداء أو تعرض لأذى. وحرية الرأي والتعبير مقررة في الإسلام وفي غيره من الأنظمة الديمقراطية لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ولأن حرية التعبير في المصطلح الإسلامي لون من ألوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو أحد فرائض الدين ومقتضياته، لإقرار الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، وهو مبدأ مقرر في القرآن والسنة، ومن النصوص في شأنه قوله تعالى: ) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ .. ( الآية [ التوبة: 71 ] ([12]). وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حرية الرأي والتعبير في المادة ( 29 ) ومطلعها: « لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير .. ». وفي عام 1966م نصت الاتفاقية الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية، في المادة الأولى منهما على حرية أو حق تقرير المصير، ونص المادة: « حق تقرير المصير لكافة الشعوب، وأن لها أن تقرر كيانها السياسي.. » وذلك من أجل تصفية ظاهرة الاستعمار، ونصت المادة ( 11/ 1 ) من الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان على منع الاستعمار وتحريمه بكافة أشكاله. ويترتب عليه أنه يجوز للجماعات الإسلامية الكبيرة التي تعاني من ظلم أو حكم دولة غير مسلمة أن تطالب بتقرير مصيرها، وتدعو إلى إقامة كيان سياسي مستقل، لرفع الظلم، وإحقاق الحق، والتمكين من تطبيق الشريعة الإسلامية والمحافظة على حقوق المسلمين المهضومة. وفي الجملة: إن الولاء السياسي في مواقف الدولة المختلفة قد يتعارض مع أحكام الشريعة وتوجهاتها، والله تعالى أمر المسلمين في آيات كثيرة بولائهم لأمتهم ودولتهم، كما في قوله تعالى: ) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( [ آل عمران: 28 ]. وكذلك قوله سبحانه: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ .. ( الآية [ الممتحنة: 1 ]. وهذا يعني عدم التجنس بجنسية دولة غير إسلامية إلا للضرورة أو الحاجة. وكلتا الآيتين تحرِّم الولاء السياسي للأعداء أو المناصرة، واستثنت الآية الأولى حالة التَّقية لدفع ضرر محتمل أو مؤكد، وهذا قد يتعرض له المسلمون أحياناً في أقطار غير إسلامية، فيمكن العمل بهذه الرخصة تفادياً للضرر كالإبعاد والإيذاء والتغريم وغير ذلك كإتمام التعليم،أو الدعوة إلى الإسلام، وإذا كفلت الدولة غير المسلمة حرية الرأي والتعبير لجميع المواطنين عملاً بمبادئ وحقوق الإنسان والقوانين النافذة، فعلى المسلمين الانحياز لجبهة المعارضة القائمة على الحق، لا المبطلة، على ألا يؤدي إعلان التعبير إلى احتمال الطرد والإبعاد، وقد أصبح قبول أي دولة أخرى هجرة المهاجرين إليها أمراً ليس بالهين أو اليسير، كما يمكن للمسلمين المقيمين في أقطار غير إسلامية الأخذ بموقف الحياد منعاً من مصادرة حكم الشريعة، وحرصاً على المصلحة الوطنية. وأما الحقوق والواجبات الاقتصادية: فكثيرة، من أهمها حق العمل والحرية في كسب الرزق ووسائل المعيشة والضمان الاجتماعي، فالعمل ضرورة لحفظ الحياة، والضمان الاجتماعي في أوقات المرض والعجز والشيخوخة والبطالة ونحوها أمر متعين وضروري، ومن المعلوم أن أكثر الدول الغربية تراعي مقتضيات الضمان الاجتماعي لاعتبارات إنسانية، إلا أن فرص العمل تكون في الغالب غير متوافرة بسبب كثرة المواطنين وانتشار البطالة، وظهور دوافع التميز والتعصب ضد الأجانب. وقد كان للإسلام فضل السبق في منح فرص العمل المختلفة لغير المسلمين كالمسلمين في حدود النظام العام والأخلاق ومنع الضرر في بلاد الإسلام، وكذلك في تمتعهم بحق الضمان الاجتماعي كالمسلمين تماماً، وقد برز هذا الحق في عهد الخلفاء الراشدين وأعلن عنه القادة الفاتحون مثل خالد وأبي عبيدة، وهذا يعد مسوغاً لضرورة المعاملة بالمثل بالنسبة للمسلمين المقيمين في أقطار غير إسلامية، ويؤكده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عملاً بالمادة ( 23 ) التي نصت على حق العمل لكل مواطن، وبأجر عادل، وحق الحماية من البطالة، وتمكينه من وسائل الحماية الاجتماعية، ومنح الحق في الانضمام لنقابة تحمي المصلحة، والحق في الراحة الأسبوعية وتحديد ساعات العمل، ونصت المـــــــادة ( 6 ) من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام ( 1966 ) على حق كل فرد في العمل لكسب معيشته باختياره، أو قبوله بحرية. ونصت المادة ( 9 ) من تلك الاتفاقية على حق الضمان الاجتماعي والتأمين الاجتماعي، ونصت المادة العاشرة على "وجوب منح الأسرة أوسع حماية ومساعدة ممكنة.." . ونصت المادة ( 17 ) من الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان على حق الضمان الاجتماعي لكل إنسان، وعلى الدولة توفير هذا الحق، ومنه حق الرعاية الصحية والاجتماعية بتهيئة جميع المرافق العامة لهذه الغاية، وكفالة الدولة حق كل إنسان في عيش كريم لتغطية حوائجه الأساسية في المسكن والملبس والمأكل والعلاج والتعليم وسائر الحاجات الأساسية. ومن مقتضيات حق العمل وحرية العمل: فتح المحلات التجارية، وإقامة المصانع، وتوفير الخدمات، والاستيراد والتصدير، وممارسة مختلف أنواع المعاملات المالية المشروعة، وهو ما كفله الإسلام لغير المسلمين في دار الإسلام. وثمرة العمل مضمونة وهي الحرية أو الحق في التملك، وممارسة عقود المعاوضات من بيع وشراء، وعقود المنافع من إيجار واستئجار، وعقود التبرعات من هبة ووقف، وأداء الزكاة وقبولها، وإقرار نظام الإرث، وعقود الإباحة من إحياء الموات ( استثمار الأراضي أو استصلاحها ) وممارسة طرق الاستثمار المختلفة من زراعة وصناعة وتجارة، وشركة وعمران، ووسائل النقل، بشرط التزام المشروع منها والامتناع عن الاحتكار والغش والاستغلال غير المشروع، والربا والقمار والغصب ونحو ذلك. وهذه الحقوق ثابتة للمسلمين وغيرهم في ديار الإسلام، فينبغي إقرارها للمسلمين في أقطار غير إسلامية. ولا فرق بين أنواع الملكية الفردية والعامة ما دامت تحقق المصلحة العامة، مع وجوب حماية الملكية للمسلمين كغيرهم في الأقطار غير الإسلامية بحسب نظام الدولة. ويجب على المسلمين احترام النظام الاقتصادي في الدولة التي يقيمون فيها، من سداد جميع الرسوم والضرائب المفروضة على جميع المواطنين، ومراعاة مختلف الأنظمة المالية والاقتصادية المقررة من غير تفرقة بين مواطن وغيره، على أساس من الحق والصدق في الإقرار وتجنب البيانات الكاذبة. وأما العلاقات الاجتماعية في الأقطار غير الإسلامية: فهي ثلاثة أنواع: علاقات خاصة بغير المسلمين، وعلاقات خاصة بالمسلمين وعلاقات عامة. أما العلاقات الخاصة بغير المسلمين: فهي المتعلقة بأعيادهم وطقوسهم وتقاليدهم الاجتماعية في الأفراح والأحزان من زواج وفراق، وموت ومراسم جنائزية، فهذه مقصورة على أصحابها، وليس للمسلمين المشاركة فيها إلا بقدر الضرورة أو الحاجة، كجوار أو مراعاة مصلحة عمل تجاري أو صناعي أو زراعي، أو العمل في مكاتب خدمات، فللمسلمين مجاملتهم فيها بقدر أو حد أدنى؛ لأن الضرورة أو الحاجة تقدر بقدرها، وبشرط عدم التكلم بكلمات تدل على الرضا بدينهم أو مذهبهم أو خصوصياتهم، واجتناب ما يدل على الدعاء لهم، أو تسويتهم بالمسلمين أهل الإيمان، أو ادعاء وحدة الأديان. وأما العلاقات الخاصة بالمسلمين: فتقصر عليهم في مقابل اقتصار عادات وتقاليد غير المسلمين عليهم، مثل ممارسة العقائد والشعائر الإسلامية. وأما العلاقات العامة كالأعياد الوطنية: فهذه يشترك المسلمون وغيرهم في التهنئة بها والإشادة بالاستقلال أو العيد الوطني، وطرد المحتل الأجنبي أو المستعمر. وتثور مشكلات متعلقة بالمسلمين قريبة من العقيدة كنظام الزواج، وإباحة الطلاق للضرورة أو الحاجة ونظام الإرث، وتكوين الجمعيات الخيرية الدينية، والإنسانية الاجتماعية والدعوية لرعاية الفقراء والأرامل والمساكين والمعوقين والمرضى والضعفاء وطلبة العلم الشرعي ورعاية الطفولة والأمومة ونحو ذلك، وكلها من حقوق الإنسان، أو من الحقوق الإنسانية اللصيقة بالشخصية أو العقيدة، ومنها جمع الزكاة وتوزيعها، والترغيب في الوقف الإسلامي وإنشاء مؤسسات علمية وصحية مختلفة، وتنميتها والحفاظ عليها، وبناء المساجد والجوامع والمدارس الخاصة لتعليم أولاد المسلمين شؤون دينهم وأخلاقهم وعقائدهم وتلاوة القرآن، وحفظه، ومعرفة السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي، ونحو ذلك من تاريخ التشريع والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي. أما الزواج: فهو حق لتكوين الأسرة المسلمة القائمة على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات في الجملة ولدى التدقيق القائم على الربط بين نظام النفقة والميراث([13])، لقوله تعالى: ) وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( [ البقرة: 228 ] وقوله U: ) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ( [ النساء: 7 ] والزواج ميثاق خطير وواجب الوفاء بحقوقه وواجباته، ويحتاج كالميراث لعالم شرعي يسمى ((المأذون الشرعي )) والفرضي (( العالم بقواعد الميراث )) ولأن قواعد الإرث الشرعي تختلف عن قواعد الأنظمة الأخرى في الشرق والغرب. والزواج أحب الحلال إلى الله، والطلاق أبغض الحلال إلى الله، وأبيح الطلاق للضرورة أو الحاجة، وهو عند تعذر بقاء الحياة الزوجية يكون آخر الدواء مثل الكي. وإذا لم يطلِّق الرجل لتعنت أو تعسفت أو للضرر وسوء العشرة، أو فقدان، أو سـجن، أو غيبة أو عدم النفقة، فتحتاج المرأة لقاضٍ شرعي أو محكَّم لـه صلاحية القاضي، ويختلف نظام الزواج الشرعي والطلاق كاختلاف نظام الإرث الشرعي، مما يتطلب وجود مرجع في هذه الأمور الثلاثة. فكان لا بد لأي دولة أن تسمح بالرجوع إلى مسؤول عالم مسلم في هذه القضايا. وأن تعترف بنظام التحكيم. وللمرأة جميع الحقوق المعطاة للرجل إلا الإمامة العظمى أو قيادة الجيش، أو ممارسة القضاء في رأي أغلب الفقهاء، وكذلك إدارة شؤون الأسرة أو قوامة الأسرة، لتوافر خبرة أوسع فيها للرجل، وأيضاً إمامة الجماعة الرجال في الصلاة، وهذه أحكام خاصة، على الدولة التي يقيم فيها المسلمون تمكين المسلمين من الاحتكام لشريعتهم وإقرار العمل بنظام الشريعة لا بالقوانين الوضعية المطبقة وبخاصة ممارسة القاضي غير المسلم حق فسخ الزواج. وكذلك وسائل الضمان أو التكافل الاجتماعي في الإسلام كالزكاة والوقف والصدقات الطوعية، وبناء المدارس الإسلامية الخاصة والمساجد ودور العبادة، على الدولة التي يقيم فيها المسـلمون تمكين المسـلمين من تكوين هذه الأنظمة، وبناء الجوامع والمدارس، وتنظيم الجمعيات الخيرية والاجتماعية، إقراراً بحرية الأديان، ورفع مسـتوى المعيشة بين الأفراد، وإعانة المرضى والعجزة والمعوقين كالصم والبُكْم والعُمْي، وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة ( 25 ) على ما يأتي: «وله ( أي لكل شخص ) الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمُّل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش، نتيجة لظروف خارجة عن إرادته». خلاصة البحث المسلمون القاطنون في أقطار غير إسلامية، سواء من يحملون الجنسية بالميلاد أو التجنس، أو من يقيمون فيها، على الرغم من أنهم يؤدون واجباتهم بحكم القوانين والأنظمة النافذة، يعيشون في حد أدنى من التمتع بحقوقهم ولا سيما ممارسة حرياتهم الدينية والسياسية والإدارية من الوظائف العامة وغيرها، علماً بأن تلك الأقطار في الغالب تعلن احترامها لحقوق الإنسان، وهذا مطعن واضح، مما يوجب على تلك الأقطار أو الدول الالتزام بمنحهم حقوقهم التامة، كما يجب على الدول الإسلامية والعربية أن لا تسكت عن أوضاع هؤلاء، وتطالب بإلحاح وعلى الدوام إنصاف أولئك المسلمين والعرب، وبخاصة حينما يزجّ بهم في غياهب السجون ويعاملون معاملة غير إنسانية، وتتجرد حكومات تلك الأقطار من معايير الإنسانية والعدل والمساواة والحريات، لمجرد اتهامات لم تثبت، وهم يدعون الديمقراطية ؟! وهذا الوضع الشائن يوجب على حكومات تلك الأقطار العدول عن سياستهم، علماً بأن حالة غير المسلمين في بلاد الإسلام تعامل حكوماتنا لهم معاملة كريمة إنسانية، وإذا حدثت بعض الأخطاء، تتدخل الحكومات الغربية أو الشرقية بنحو جريء وقوي لتلافي تلك الأخطاء، فأين المساواة ؟ ولماذا التمييز الفاضح بين المسلمين وغيرهم ؟! وحقوق المسلمين في الأقطار غير الإسلامية كثيرة، سواء أكانت فردية أم دينية أم اجتماعية. أما الحقوق الفردية: فتشمل حق الحياة العزيزة الكريمة، وحق الكرامة الإنسانية، وحق الحرية والتنقل، سواء أكانت حريات دينية وفكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية، وحق المساواة مع المواطنين الأصليين، وكل هذه الحقوق ونحوها كفلها الإسلام لغير المسلمين في بلاد الإسلام، فجدير بالحكومات الأخرى أن تحترم هذه الحقوق بنحو تام، دون مساس بها، كما أن ميثاق حقوق الإنسان العالمي يوجب صيانة هذه الحقوق من غير أية تفرقة بين الناس بسبب الجنس والعنصر والأصل والعرق والدين والانتماء واللون والاعتبار أو القيمة. وواجبات المسلمين الفردية نحو غيرهم يقومون بها في الغالب خير قيام، كأداء الرسوم والضرائب واحترام الآخرين في عاداتهم وتقاليدهم وأديانهم ومذاهبهم وعلومهم ومعارفهم وثقافاتهم وأمنهم وأمانهم إلا من بعض الشاذين فكرياً. ولا يتورط أحد من المسلمين بجرم إلا إذا عومل معاملة قاسية أو سيئة أو لحقه ظلم، أو كان محتاجاً لتوفير الحياة المعيشية الضرورية، لأن رسالة الإسلام تعلِّم أتباعه الالتزام بأداء الواجبات والتخلق بالأخلاق الكريمة والآداب الفردية والاجتماعية، وعدم المساس بحرية الآخرين في ممارسة شعائر دينهم وطقوس عباداتهم وصون حقهم في الحياة والاستقرار والأمان، دون إهمال واجب الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. وأما الواجبات الدينية والثقافية: فهي تتمثل بضرورة توفير التعايش الديني والمذهبي والثقافي، والمشـاركة التعليمية والتربوية والثقافية المعبر عنها بالمعرفة، والسلوك، أي التقاليد المرعية السائدة، والمناسـبات الوطنية القومية كأعياد الاسـتقلال أو ذكرى نشوء الدولة أو تخليد معركة تاريخية سجلت فيها انتصارات وطنية، رعاية للمصلحة العامة العليا، لأن المشاعر الوطنية ذات أهمية بالغة في ضمير الفرد والجماعة والأمة والدولة. وعلى المسلمين عدم التدخل في شؤون غيرهم من ممارسة شعائر دينية أو طقوس وشكليات موروثة. بل إن المشاركة الثقافية والتعليمية والتربوية غير المصادمة لأصول الإسلام، والتفاعل مع القضايا الوطنية لها انعكاسات وتأثيرات طيبة جداً في توفير مناخ المودة والوئام والتعاون والائتلاف، وقد تعارفت الدول الحديثة على ضرورة التزام السفارات والقنصليات الأجنبية بأيام العطلات الرسمية والتهاني بالأعياد الوطنية وإعلان البهجة والسرور بالمناسبات العامة. وأما حقوق المسلمين في أقطار غير إسلامية في ممارسة عباداتهم وثقافتهم وتاريخهم وأوضاعهم، فهي حقوق طبيعية ومنطقية وتنظيمية، فمن حقهم أداء شعائر دينهم وإعلان أصول عقيدتهم، وتمكينهم من الاحتفال بمناسباتهم التاريخية وأعيادهم الدينية والوطنية، والسماح لهم ببناء المساجد والمدارس التعليمية والتربوية، على أن تكون المناهج المقررة مراعى فيها الأصالة والمعاصرة، والوسطية والاعتدال، والانسجام بقدر الحاجة مع ثقافة القطر الذي يقيم فيه المسلمون، حتى لا تنشب المنازعات، وتثور الصراعات، ويعم الغليان الديني أو الطائفي أرجاء البلاد، وفي هذا من الضرر مالا يخفى. ومن المعلوم أن الحق في التعلم والتعليم حق إنساني وطبيعي كفلته الشرائع السماوية الإلهية، وغيرها من الشرائع الدولية، ومنها إعلانات حقوق الإنسان في أوروبا وأمريكا وفرنسا، ثم في العالم كله. وهذه ظاهرة حضارية ومدنية طيبة. وأما حقوق المسلم وواجباته الاجتماعية: فهي كثيرة ومهمة جداً، فعليه احترام أنظمة الدولة التي يقيم فيها، تعبيراً عن ولائه وانتمائه إليها، وبلورة هويته فيها، وإخلاصه للقطر الذي يعيش فيه ويستفيد من عطائه وخيراته. ومن حقه المشاركة في الانتخابات البرلمانية والترشيح للعضوية فيها دون تمييز بينه وبين بقية المواطنين. ومن حقه أيضاً منحه الإقامة والجنسية بحسب أنظمة الدولة، وكذلك تمكينه من التنقل واللجوء، وممارسة حق التقاضي في المعاملات المالية أمام المحاكم المحلية إما لرفع ظلم عنه، أو استيفاء لحقه المغتصب أو المعتدى عليه، إلا أن أمر المشاركة في التجنيد الإجباري لا يجيزه الإسلام، وحينئذ يحاول المسلم الإعفاء منه، وإذا لم ينضم المسلم لخدمة علم البلاد، استحق العقوبات المقررة في القوانين الوطنية كالسجن أو الغرامة المالية أو غيرها، وهذا أهون وأصح من الاشتراك في الحروب مع دولة غير إسلامية. ومن الحقوق السياسية للمسلمين في قطر غير إسلامي: حق التظاهر السلمي للتعبير عن الرأي أو الموقف، ولهم الحق في التعبير عن الآراء، لأن حرية الرأي والتعبير من دعائم وأسس الديمقراطية، وهي أيضاً من أصول الإسلام المقررة. ومن حق جماعات المسلمين الذين يتعرضون للظلم في قطر غير إسلامي أن يطالبوا بحقهم في تقرير مصيرهم واستقلالهم عن الوطن الأصلي، فذلك ظرف متعين، وبخاصة إذا سُلبوا مقومات حياتهم الضرورية، وتعرضوا للأذى والضرر، أو لم يتمكنوا من ممارسة عباداتهم. والولاء السياسي للدولة وإن كان مطلوباً في القوانين الإدارية أو الوضعية إلا أنه مرتبط أساساً بالتمتع بالحقوق الممنوحة لبقية المواطنين، فإذا فقد هذا الولاء مرتكزاته، جاز طلب تغييره، والاستقلال عن الوطن الأم. ومن حقوق المسلمين الاقتصادية: الحق في العمل، والحرية في اكتساب وسائل المعيشة الكريمة، والحق في الضمان الاجتماعي في حال المرض والعجز والشيخوخة والبطالة ونحوها، وحق التملك والتمليك، لأن الحياة لا تتوافر بغير ذلك، ولأن الإسلام وإعلانات حقوق الإنسان تفرض ذلك، ولكن يجب أن تكون الممارسات الاقتصادية منسجمة مع قوانين الدولة المحلية. ومن أهم حقوق المسلمين الاجتماعية في أقطار غير إسلامية: تمكينهم من تكوين الأسرة على أسس إسلامية صحيحة، وأن يطبق نظام شريعتهم في مسائل الطلاق والميراث وأداء الزكاة وجبايتها، وإنشاء الأوقاف والاحتفال بأعيادهم الدينية كعيد الفطر وعيد الأضحى، وبناء المساجد والمدارس الخاصة لتعليم الدين وقراءة القرآن، وتكوين الجمعيات الخيرية والدينية والاجتماعية لرعاية أحوال الفقراء والمعوقين والمرضى والعجزة والعاطلين عن العمل. وينبغي الاعتراف بنظام التحكيم وإبرام عقود الزواج بين المسلمين وقصر فسخها على علمائهم، وأن ينحصر النظر في هذه القضايا بنظام المحكمين المسلمين والمأذونين الشرعيين. ومن حق المرأة كالرجل: المطالبة بتطبيق أحكام الشريعة فيما يصون كرامتها أثناء قيام الأسرة أو بعد انحلالها، وكذلك للأولاد حقوق واضحة في الشريعة حفاظاً على حياتهم وكرامتهم، وتمكينهم من متابعة تعليمهم، ورعايتهم في الصغر، وفي الكبر لإتمام مراحل التعليم، وصونهم من الذوبان في بيئة الآخرين أو ثقافتهم. لكن هل للمرأة المسلمة أن تتقاضى أمام قاضٍ غير مسلم لمنحها نصف ثروة المسلم الذي فارقها أو لتطليقها ؟ في الواقع هذا لا يجوز، لمصادمته قواعد الشـريعة الإسـلامية. -------------------------------------------------------------------------------- ([1]) انظر كتاب (( آثار الحرب في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة)) للباحث. ([2]) أي قتل قابيل أخاه هابيل ( بني آدم u ). ([3]) أي وغيرهم من البشر. ([4]) نهج البلاغة: ص 111 . ([5]) انظر وقارن (( حقوق الإنسان في الإسلام )) أ.د. محمد الزحيلي. ([6]) انظر كتاب حق الحرية في العالم للباحث. ([7]) انظر كتاب (( الإسلام دين الحرية والديمقراطية )) أي الإسلامية للباحث. ([8]) كنز العمال: 1 / 66. ([9]) انظر بحث (( الخصائص الكبرى لحقوق الإنسان )) للباحث. ([10]) لكن جزى الله خيراً السيد السفير السوري في موسكو في الستينات والسبعينات من القرن الماضي الذي عمل بعزم وهمة عالية على إعفاء المسلمين في الجامعات الروسية من دراسة الفلسفة الإلحادية المادية الشيوعية ( فلسفة المادة ). ([11])انظر رسالة الدكتوراه للسيد نواف التكروري: (( أحكام التعامل مع الكيان الصهيوني )) بإشراف الباحث. ([12])انظر كتاب (( حق الحرية في العالم )) للباحث. ([13]) انظر كتاب (( الأسرة المسلمة في العالم المعاصر )) للباحث.