الإسلاميون والغرب ما عليهما وما بينهما الدكتور طلال عتريسي([1]) من أين يمكن مقاربة المشكلة بين الإسلام والغرب التي تطرح من جوانب متعددة منذ سنوات في كثير من الأدبيات الاسلامية والغربية على حد سواء؟ وهل المشكلة المفترضة ذات طبيعة بنيوية أو حضارية بحيث لابد من التصادم الذي تدفع اليه المصالح الراهنة أو المخاوف المستبقلية؟ أم ان عوامل اخرى هي التي تسبب التوتر والاتهام المتبادل؟ ثمة إتجاهات فكرية وسياسية ساهمت الى حد كبير، في السنوات الماضية في إثارة القلق والشكوك المتبادلة، بين المسلمين والغرب مثال ماكتبه هانتنغتون، او برنارد لويس وآخرون، حول اتهام الاسلام كدين، او مثال ماقام به تنظيم القاعدة من عمليات ضد افراد أومؤسسات غربية وما اطلقه زعيمه بن لادن من دعوات (للجهاد) ضد الغرب، ولم تظهر تلك الاتجاهات والدعوات فجأة أو من فراغ فذاكرة الطرفين التاريخية مثقلة بالقلق والريبة، من الاسلام الذي هدد اوروبا ودق ابوابها في القرون الماضية، ومن الجيوش الغربية التي وطأت أقدامها أراضي المسلمين ومزقت وحدتها واعملت فيها النهب والقتل، ومارست عليها الاحتلال والوصاية، وزرعت في قلبها كيانا (استيطانيا). لا يصدر التوجس إذا من فراغ تاريخي أو سياسي، أو فكري . فلهذا كله مساهماته التي تتفاوت من حيث القوة والتأثير على نظرة المسلمين الى الغرب، وعلى نظرة الغربيين الى الإسلام والمسلمين... لكن المفارقة هنا: أن كراهية المسلمين للغرب أو عداءهم له أوخوفهم منه ومن مشاريعه لم تفض الى أي عداء للمسيحية كدين أو لأي إشارة بسوء لها. بينما لم تتورع أقلام غربية كثيرة عن المس بالإسلام نفسه، وليس بالمسلمين فقط، كدين يحرض على العنف، ويختزن العداء للآخر وكراهيته. ليس من المطلوب العودة الى البيئة التاريخية التي كتب عنها الكثير لعلاقة التوتر بين المسلمين والغرب، على الرغم من أهمية هذه البيئة في فهم مايجري اليوم وفي التأثير عليه. بل سنبحث في (المتغيرات) الاجتماعية – السياسية ، الحديثة نسبيا التي عززت ثنائية الإسلام والغرب، والتي يتحمل الطرفان: الاسلاميون والغرب مسؤولية مباشرة فيها، وفي الآثار التي ترتبت عليها. مسؤولية الغرب: 1ـ لا احد يستطيع انكار التفوق في قدرات الغرب السياسية والعسكرية والاقتصادية على باقي العالم، الا ان المسلمين لَمْ يشعروا منذ نصف قرن الى اليوم ان الغرب كان منصفا (نحوهم أو أنه لم يكن متحيزا) ضدهم. فقد صدرت على سبيل المثال عشرات القرارات الدولية في اطار الصراع العربي الاسرائيلي ولم تنفذها اسرائيل، ولم يرغمها احد من القوى الكبرى على ذلك، لا قديما ولا حديثا، بينما تمارس الغضوط الشديدة والمباشرة على دول اسلامية لمنعها من امتلاك السلاح النووي (مثل ايران أو سوريا) ولا ينبس احد من الدول الغربية بأي كلمة بشأن ترسانة اسرائيل النووية التي يعرف العالم أجمع بامتلاكها لها، لابل يذهب بعض قادة هذه الدول الى تبرير تلك الترسانة بالمخاوف الاسرائيلية من جوارها وعلى مستقبلها. ولا يتقدم احد بأي ادانة أو عقوبات رادعة للمجازر التي ترتكبها اسرائيل يوميا ضد الشعب الفلطسيني، وهذه الازدواجية باتت معروفة بالنسبة الى الدول العربية والاسلامية بسياسة الكيل بمكيالين. 2- يتعمد الإعلام الغربي، في السينما والتلفزيون تقديم صورة مشوهة وسلبية عن الاسلام والمسلمين، وبسبب ثورة الاتصالات الحديثة إستطاع المسلمون على اختلاف مستوياتهم أن يتلقوا هذا الاعلام وأن يعرفوا ماذا يدور فيه، ما أثار غيظهُم وغضبهم، وخصوصا انهم غير قادرين بالمقابل على الرد بالطريقة نفسها بسبب التفاوت في قدرات الطرفين على هذا الصعيد، وما هو أخطر من وسائل الاعلام هي الكتب المدرسية الغربية التي تقدم بدورها صورة سلبية للناشئة عن الاسلام والمسلمين وعن العرب([2]) مايترك أثرا مبكرا في وعيهم تجاه هذا الدين وشعوبه المختلفة، ثم تشارك وسائل الاعلام في تثبيت تلك الصورة، الى ان يتعذر لاحقا تغييرها بسهولة. ومع تكرار تلك الصور السلبية سوف تنشأ توترات نفسية في صدور الكثير من المسلمين قد تتحول في أي وقت الى اعمال عدائية أو انتقامية، وفي أحدث نموذج لما سبق الملصق الانتخابي للرئيس الاميركي جورج بوش حول الارهاب وفيه صورة لرجل له ملامح شرق اوسطية (عربي أو مسلم) أثارت انتقاد الاميركيين العرب واحتجاجهم (النهار 13/3/2004). 3- لم تتردد دول الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا، في دعم حكومات إسلامية استبدادية أو غير ديمقراطية اذا كانت سياسات تلك الحكومات تتفق والمصالح الغربية. ولا تنتقد دول الغرب ما يتعرض له الاسلاميون تحديدا من تضييق ومن منع احزابهم من المشاركة السياسية، أو ما يتعرض له الناشطون منهم من اعتقال أو تعذيب، فتجربة الجزائر على سبيل المثال التي كادت (جبهة الانقاذ الاسلامية) تصل فيها الى السلطة اجهضت بحمام دم. ولم يعترض القادة الغربيون على ما حصل بل أيدوه لأن السلطة ستقع في قبضة الاسلاميين، وفي مصر لاتزال (حركة الاخوان المسلمين) محظورة منذ عقود، ولم تحصل على حق الترشح ولا على الترخيص بالعمل السياسي على الرغم من شعبية هذه الحركة الواسعة التي تضاهي معظم الحركات السياسية الآخرى. وفي باكستان حصل الجنرال (برويز مشرف) على دعم الولايات المتحدة وتأييدهابعد انقلابه العسكري. وأصبحت باكستان (شريكا) استراتيجيا (مهما) لواشنطن لأنها تعاونت في الحرب الاميركية على طالبان وعلى تنظيم القاعدة في افغانستان.. من دون ان يسبب ذلك أي حرج للولايات المتحدة ومن دون أي انتقاد من الدول الغربية الاخرى بسبب طبيعة الانقلاب العسكري الذي لا يمت الى التقاليد الديمقراطية بأي صلة.. والأمثلة كثيرة من تاريخ أوروبا الإستعماري إلى عصر الإمبراطورية الأميركية وينعكس هذا الانحياز الى الحكومات في البلدان الاسلامية والى المصالح الغربية ، شكوكا في ادعاءات الغرب الدفاع عن حقوق الانسان وعن الديمقراطية، فتتسع الهوة بين الغرب وبين الشعوب الاسلامية، وبين كثير من النخب في البلدان الاسلامية التي تتطلع الى الغرب كنموذج متقدم، فتجده نموذجا متحيزا يشبه حكوماتها. وتزداد هذه الهوة اتساعا مع (الاسلاميين) الذين يفسر بعضهم صمت الغرب عن التنكيل بهم، وعن زجهم في السجون بأنه (تواطؤ) وعداء ليس ضدهم فقط بل ضد الاسلام كدين وعقيدة. 4- دأب الغرب منذ سنوات وخصوصا بعد نهاية الحرب الباردة على الإهتمام بما يسميه (قضايا الديمقراطية والحريات والمجتمع المدني، وحقوق المرأة، وحقوق الإنسان في الدول العربية والإسلامية..) وعلى الرغم من الاهتمام المتزايد في اوساط المسلمين انفسهم بهذه الموضوعات وإثارة الاسئلة الجدية حولها فإن مايجري على هذا الصعيد لا يلحظ الخصوصيات الثقافية في المجتمعات الاسلامية تجاه قضايا معينة مثل قضية الاسرة والمراة وما يتصل بهما من علاقات وقيم، إذ تحاول كل اللقاءات والندوات التي تعقدها المنظمات والهيئات الاقليمية والدولية في البلدان الاسلامية ان تقدم نموذجها الخاص (الغربي) الذي تعيشه وتعرفه عن هذه القضايا، وغالبا ما تختار هذه المنظمات من بين (المشاركين المحليين) ذوي الاتجاهات غير الاسلامية الذين يوافقونها عادة على ما تدعو اليه. وتتجنب دعوة الاسلاميين الذين يخالفونها الراي ويعترضون على المفاهيم الى تطرح ويتم الترويج لها، وهكذا يتوقع عمل هذه المنظمات والجمعيات بين نخب محدودة تلتف حولها وتستفيد منها. بعدما اختارت عدم التوسع خارج تلك النخب. مايجعل شكوك الاسلاميين تحوم حولها، ويجعل اتهامها بالارتباط بالمخططات الخارجية سهلا ويسير المنال. ويجعل افرادها في لحظات الانفعال او الغضب حتى لما يحصل في أي مكان آخر، عرضة للاعتداء او للانتقام. 5- يرتبط بالنقطة السابقة المشروع الاميركي (لاصلاح الشرق الاوسط الكبير). (يضم الدول العربية واسرائيل وتركيا وايران وافغانستان) الذي شغل ولايزال الحكومات العربية منذ إطلاقه في الاشهر الاولى من عام 2004 الى اليوم. وتحول الى موضوع للسجال الواسع بين النخب السياسية والفكرية. وأثار موجة من السخط ضد اصحاب هذا المشروع علىالرغم من الاعتراف بالحاجة الى الاصلاح وضرورته في الدول العربية والاسلامية من اطلاق الحريات الى تداول السلطة الى حقوق الانسان. وبعيدا من نقاش جدية المشروع والقدرة على تحقيقه حيث يريد ان يجمع دولا متفاوتة التقدم في تجربتها وفي تنميتها الاجتماعية والسياسية والفكرية، فإن الضغوط الاميركية الفعلية على معظم الحكومات العربية انصبت على قضايا التعليم الديني وغير الديني (لتشذيبه من كل ما يمت الى التطرف بصلة والى كل ما يشير الى العداء لاسرائيل أو لمقاومتها أو لاحتلالها لفلسطين من جهة ثانية). وعلى قضايا المرأة لاطلاق حريتها.. وذلك استنادا الى الرؤية الاميركية التي تعتبر ان البنى الراهنة الاجتماعية والثقافية في الدول العربية هي مصدر التطرف والارهاب الذي يهدد أمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها.. وأن تغيير هذه البنى سيؤدي الى تجفيف المنابع الفكرية والثقافية لهذه الارهاب مثلما تم العمل على تجفيف منابعه المالية بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، أما الضغوط الهامشية فكانت على قضايا تداول السلطة واطلاق الحريات وحقوق الانسان. ويستند الساخطون على هذا المشروع الى ان طريقة إطلاقه وتقديمه الى (الدول الصناعية) لمناقشته قبل طرحه على قادة أو شعوب الدول المعنية بهذا الاصلاح جعله مشروعاً مفروضا من الخارج، ومايزيد من القلق من هذا المشروع انه يتحدث عن دعم مباشر لمنظمات دولية ومحلية في قضايا الادارة والتعليم والاعلام والانتخابات.. أي (حق التدخل). وقد بدأت الولايات المتحدة أصلا وقبل طرح مشروعها ضغوطا مباشرة لتغيير مناهج التعليم الديني في أكثر من دولة إسلامية، بذريعة التطرف والكراهية التي يحض عليها هذا التعليم. الا ان من يعود الى مطلع الثمانينات من القرن العشرين سوف يلاحظ ان الولايات المتحدة نفسها شجعت وأيدت ودعمت توسع هذا التعليم وإنتشاره، وهي لا تشعر بأي حرج وهي تبدل سياستها وتقبلها رأسا على عقب. فقد كانت ترى في الاصولية وحتى في (السلفية) وفي مدارسها التي تخرجت منه حركة طالبان وفي تعليمها (في اثناء الحرب الباردة) سدا أمام انتشار الشيوعية حينا ومحفزا لقتال السوفيات الذي احتلوا افغانستان حينا آخر. (واتسع التلاقي بين شبكات اسلامية وبين الديبلوماسية الاميركية) ([3]). كما غضت الولايات المتحدة الطرف عن الشبكات الإسلامية من المساجد الى المؤسسات التجارية والاعلامية والدينية في افريقيا واوروبا وآسيا. التي كانت تتلقى الدعم المالي من المملكة السعودية لمواجهة النفوذ الايراني المتنامي بعد انتصار الثورة الاسلامية، ولمحاولة تقديم بديل (معتدل) عن الاسلام الايراني (المتطرف). ومن البداهة أن يؤدي هذا الانقلاب من التعاون مع (السلفية والاصولية) ودعمها الى الحرب عليه، الى الرغبة في الانتقام التي توفر لها الولايات المتحدة الكثير من المبررات من خلال سياساتها في الشرق الاوسط ، ولكي يعلن هذا الطرف الاصولي أو ذاك عداءه للولايات المتحدة أو ليمارس انتقامه الفعلي من الغرب كله.. وحتى كيفما اتفق. 6- بعد الحادي عشر من سبتمبر شنت الولايات المتحدة حربا مفتوحة على ما سمته (الارهاب) وتبين بعد نحو ثلاث سنوات من تلك الحرب ان المقصود بها لم يكن سوى منظمات وحركات ودول واحزاب اسلامية دون سواها. وان العقوبات في تلك الحرب اقتصرت على مؤسسات وجمعيات تقدم الدعم والمساعدة والتبرعات سواء لتلك المنظمات او للفقراء والمساكين والطلاب، من دون أي تمييز، وأن المنظمات التي تقاتل إسرائيل من دون ان تقوم بأي عمليات ضد اوروبيين أو اميركيين هي ايضا منظمات إرهابية. وان ما تفعله إسرائيل بالشعب الفلسطيني ليس إرهابا. وأن هذه الحرب امتدت الى دولتين مسلمين في افغانستان والعراق واطاحت بنظاميهما، بذريعة نشر الديمقراطية تارة وامتلاك السلاح النووي تارة أخرى. هذا في الوقت الذي تلجأ فيه واشنطن الى الديبلوماسية العلنية لمواجهة تشبث كوريا الشمالية (ذات الحزب الواحد) پامتلاك السلاح النووي.. كما جعل الرئيس الاميركي لحربه ضد الارهاب طابعا (تبشيريا). فهي بالنسبة اليه حرب (الخير ضد الشر) أي ان الشر المستهدف هو التطرف الذي يتحدر من الاسلام. من دون أي تمييز بين المنظمات الاسلامية المستهدفة (معتدلة وغير معتدلة ، تقاتل الغرب أو تقاتل إسرائيل، جمعيات خيرية أو حركات سياسية..). فإذا راجعنا مجمل ما أشرنا اليه من سياسات وأفكار وحروب وتهديدات وضغوط لجأ اليها الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا ضد الإسلام تارة وضد المسلمين تارة أخرى، ادركنا الاستنتاجات التالية: 1ـ ان تلك السياسات والحروب تتحمل مسؤولية مباشرة في ولادة (بيئة كراهية) الغرب في البلدان الاسلامية. وان تلك الكراهية يمكن ان تجد بسهولة مبررات السلوك العدواني المباشر ضد أي رمز غربي بشري او مادي. 2- ان (كراهية الغرب) ليست كراهية ثقافية، فمصدرها سياسي في المقام الأول، ومايقال عن رغبة (الاسلاميين) في تدمير حضارة الغرب أو في الانتقام من هذه الحضارة ليس صحيحا وليس واقعيا. 3- ان مستقبل الاسلام نفسه تهديد (في المنظور الغربي) أو كشريك وند في الحوار (في المنظور الاسلامي) لن ينفصل عن استمرار تلك السياسات أو عن تعديلها، ولا عن بيئة الكراهية الناجمة عنها. مسؤولية الاسلاميين: لا يعني ما تقدم انه ليس بين المسلمين أو بين منظماتهم أو أحزابهم التي ينتمون اليها من لا يعتقد اصلا الا بالمواجهة العسكرية مع الغرب. فثمة من لا يزال ينظر الى العالم الا بإعتباره دارين، دار الإسلام ودار الكفر([4]). وأن عليه وعلى باقي المسلمين ان ينهضوا لقتال اهل الكفر وداره في كل وقت وفي كل زمان. وثمة من يستند الى أن أهل الكفر (ملة واحدة) ينبغي قتالهم جميعا، ولا فرق في ذلك بين محتل وغير محتل، أو بين مدني وغير مدني ، أو بين محارب ومسالم.. وله في ذلك مرجعيته النظرية والفقهية وقراءته الخاصة للقرآن والسنة، وغالبا ما يحتل هذا الإتجاه صدارة الإهتمام الإعلامي والأمني والسياسي بسبب العنف الذي يلجأ اليه حيثما إستطاع الى ذلك سبيلا. إلا أن ذلك لا يمنع من رؤية إتجاهات اخرى في داخل الحركات الإسلامية يمكن تقسيمها على الشكل التالي: 1ـ إتجاه يفصل بين الدعوة والسياسة، وهو سابق على إنتصار الثورة الاسلامية في ايران، وينشط من خلال المؤسسات الثقافية والتربوية والجمعيات الخيرية والإنسانية وبناء الحوزات العلمية.. وليس لهذا الإتجاه أية مواقف سياسية، ولا يطرح على نفسه مثل هذه المهمة. ومن بينه من يعارض اصلا مثل هذا التدخل، ومنهم من يعتقد ان تغيير ثقافة الأفراد هو الذي سيؤدي لاحقا الى أسلمة المجتمع. 2- إتجاه يدمج بين الدعوة والتربية وبناء المؤسسات الإجتماعية والثقافية وبين رغبته في العمل السياسي من خلال الأطر الرسمية والشرعية مثل مجالس النواب والبلديات والنقابات. ولا يقر هذا الإتجاه أسلوب العنف، ولا يلجأ اليه من أجل التغيير أو من أجل نشر الدعوة، والنموذج الأبرز لهذا الإتجاه هو جماعة الأخوان المسلمين في مصر، والحركات التي تفرعت عنها أو تأثرت بها في البلدان الإسلامية. 3- الإتجاه الذي سبق وأشرنا اليه، الذي يرى في اللجوء الى العنف من خلال الإغتيال أو التفجير أو الإنقلاب الوسيلة الأفضل والأسرع لبناء (النظام الإسلامي) والقضاء على (النظام الكافر) وقد عرف هذا الإتجاه قبل إنتصار الثورة الإسلامية وبعدها، ويستند هذا الاتجاه الى مبررات فقهية تكفر المجتمع الذي لا يطبق الأحكام ولا يستند في ما يفعل الى الشريعة الإسلامية، (جماعة التكفير والهجرة) .. وان التخلص من هذا النظام هو (تجاه من النار) . وقد شهدت مصر في منتصف السبعينات محاولة من هذا النوع من داخل احدى الكليات العسكرية قادها ضباط وجنود ذوي اتجاهات اسلامية، وقد اشتد ساعد هذا الاتجاه بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران التي قدمت نموذجا (ممكنا) لاستيلاء قوة اسلامية على السلطة.ما يبرر بالنسبة الى اصحاب هذا الاتجاه تكثيف العنف لاسقاط (الانظمة الفاسدة) مثل مافعل تنظيم (الجهاد) في مصر الذي اغتال الرئيس انور السادات في مطلع الثمانينات، وكان التنظيم يعد لعملية استيلاء انقلابية على السلطة فشلت ولم تحقق اهدافها وفي الوقت نفسه كثفت السلطات بدورها العنف ضد اصحاب الاتجاهات الاسلامية فسجنت واعتقلت وعذبت الالوف واعدمت منهم العشرات. 4- الاتجاه الرابع تمثل في حركات المقاومة ضد الاحتلال وأبرزها في لبنان وفلسطين التي تنامت بعد انتصار الثورة في ايران التي قدمت الدعم لهذا الاتجاه، وأولوية هؤلاء العنف المسلح، ولكن ليس من اجل الاستيلاء على السلطة أو اسلمة المجتمع، بل من اجل المواجهة مع الخارج الذي هو الاحتلال المباشر. وفي مراجعة لحقبة العقدين الماضيين سوف نلاحظ انها تقسم بدورها الى مرحلتين: الثمانينيات والتسعينيات. كانت السمة العامة للمرحلة الاولى (توظيف) الظاهرة الإسلامية، وتقديم الدعم لها وإعلاء شأنها في مواجهة الإحتلال السوفياتي لأفغانستان. واطلق على المقاتلين في الاعلام الغربي (المجاهدون) (ومن بينهم – طالبان- انفسهم، ومؤيدون بن لادن..). أما الوجه الاخر لتلك المرحلة في التعامل مع (الظاهرة الاسلامية) فكان تطويق (الثورة الاسلامية في ايرن بالحرب العراقية التي استمرت حتى عام 1988. ومن سمات هذه المرحلة ايضا ان عنف المنظمات الاسلامية (الاتجاه الثالث) انفجر في وجه السلطات الحاكمة وفي داخل المجتمع في حالات من الكر والفر والمد والجزر والخسائر المتبادلة. (كما في مصر والجزائر..) ولم يتجه هذا العنف نحو الخارج (الغرب...) حتى من تعرض من السياح الاجانب للاعتداء أو القتل فقد حصل ذلك على ارض الاسلام وليس في الغرب، من اجل الضغط على الحكومات وارباكها وليس لأن هؤلاء الاجانب (صليبيين او يهود..). أما حقبة التسعينيات فشهدت فيها المعادلتين الاقليمية والدولية تحولا كبيرا فقد انسحب الاتحاد السوفياتي من افغانستان (1989) واحتل العراق الكويت (1999) وتفكك الاتحاد السوفياتي ثم عقد مؤتمر مدريد للسلام (1991) ووقع الفلسطينيون اتفاق اوسلو (1993) وفي هذه الحقبة بدأت مراكز الدراسات في الولايات المتحدة تتحدث عن (الخطر الاخضر) الذي سيواجهه الغرب بديلا للخطر الاحمر الذي تداعى.. وشهدت الدول العربية والاسلامية ما عرف بـ (ظاهرة الافغان العرب) الذين سبق وقاتلوا في افغانستان ضد الاحتلال السوفياتي . وسيبرز في هذه الحقبة على مستوى (الظاهرة الاسلامية) تنظيم القاعدة و(الجبهة الاسلامية العالمية لقتال اليهود والنصارى) (تحالف بن لادن والظواهري) الذي سيحظى باهتمام دولي اعلامي وسياسي من الدرجة الاولى بعد اعمال عنف وتفجيرات واعتداءات ضد مؤسسات مدنية وعسكرية غربية واميركية نسبتها تلك الجبهة الى نفسها، من تفجير السفارات، الى مجمعات سكنية وعسكرية من افريقيا الى المملكة السعودية الى اوروبا، وصولا الى عمليات الحادي عشر من سبتمبر في واشنطن ونيويورك، وستحجب هذه الظاهرة تحولات اخرى شديدة الاهمية وأكثر نفاذا في بنية المجتمع في البلدان الاسلامية، وابرزها: 1- اتجاه معظم الحركات الاسلامية وحتى الاتجاهات الرئيسية فيها نحو التكيف مع النظم القائمة في بلدانها([5])، ونحو السبل المشروعة والديمقراطية المتاحة (البرلمان ، البلديات، الحكومات..) سبيلا للمشاركة السياسية وللتغيير السلمي من دون اللجوء الى العنف. (كما في تجارب لبنان والاردن والكويت والمغرب وتركيا..). 2- تراجع العنف الداخلي الذي سبق ومارسته تنظيمات اسلامية ضد شخصيات سياسية أو دينية أو ضد سياح اجانب، أو ضد غير المسلمين (مصر والجزائر). والاهم من هذا التراجع هو الادانة الواسعة والعلنية لهذا الاتجاه من شخصيات وقادة وعلماء من التيارات الاسلامية المختلفة، كانوا يصمتون في السابق عن هذا النوع من العنف. ولا يقل أهمية عن تلك الادانة ظاهرة تراجع معظم قادة تيار العنف نفسه عن هذا الاسلوب، واعترافهم بالخطأ الذي ارتكبوه و(تويتهم)، واعلان رغبتهم في التحول الىالعمل العلني والمشروع وتأسيس احزاب سياسية. قدمت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر مبررات قوية للاتجاه الغربي الذي سبق ورأى في الاسلام تهديدا شاملا أو خطرا قادما. كما وضعت تلك الهجمات الاتجاهات الاسلامية كافة على اختلاف استراتيجياتها امام تحد لم يسبق لها مواجهته. فقد فتحت عليها واشنطن ابواب حرب عالمية اطلقت عليها (الحرب على الارهاب) على المستويات السياسية والاعلامية والامنية والعسكرية والمالية. بعد أن جعلتها كلها في (سلة واحدة) من دون تمييز بينها، أو بين التحولات التي تمر بها. ودفع المسلمون افرادا وجماعات وحكومات اثمانا باهظة لتلك الحرب، اما أبرز المتضررين مما حصل فهو تيار الحوار بين الحضارات، وتيار المقاومة ضد الاحتلال. فقد تحول العالم في لحظة واحدة الى ما يشبه معسكرين متقابلين لا ثالث لهما: واحد للخير وواحد للشر ويسعى كل منهما للقضاء على الآخر. فبن لادن يدعو المسلمين الى الجهاد ضد الصليبيين واليهود والكفار، وجورج بوش ينزلق الى (حرب صليبية) لا تستهدف الا المنظمات والحكومات الاسلامية. ويعلن (ان من ليس معه فهو ضده في هذه الحرب وانها حرب الحضارة ضد الارهاب). وما فاقم من الاضرار والمعوقات التي تعرضت لها دعوة الحوار بين الحضارات، ان الرئيس الاميركي تبنى عقيدة (الحرب الاستباقية) التي تسمح له بشن الهجوم العسكري على اي بلد يعتقد انه قد يشكل تهديدا محتملا لأمن الولايات المتحدة أو لأمن حلفائها. ومن الطبيعي في بيئة مماثلة من التوتر ومن الاعتداءات المباشرة ان تصم الاذان عن دعوات الحوار.. أما من جهة ثانية فقد كشفت الهجمات على واشنطن ونيويورك وما أعقبها من عمليات في بلدان عدة اسلامية واوروبية، حجم التخلف عن الواقع في خطاب واهداف تنظيم القاعدة وزعيمه اسامة بن لادن الذي (يجاهد) في (جبهة عالمية ضد اليهود والصليبيين) فقد فات هذا التنظيم على سبيل المثال ان أبرز معارضة للحرب على العراق جاءت من (العالم المسيحي) ومن الفاتيكان نفسه عندما خرج مئات الالوف الى شوارع اوروبا للتنديد بالحرب وبالسياسة الاميركية. ووقفت اوروبا بقوة في المحافل الدولية ضد الولايات المتحدة الاميركية ودفعت مقابل ذلك اثمانا سياسية واقتصادية.. كما كشفت عمليات الحادي عشر من سبتمبر وما أعقبها من تطورات وهجمات وحروب من افغانستان الى العراق، مدى افتراق (تنظيم القاعدة كتيار جهادي سلفي) الى حد العزلة، عن التيارات الاسلامية الاخرى، دون ان يعني ذلك انه في طليعتها، ففي الوقت الذي يتبنى فيه هذا التيار اسلوبا وحيدا هو عمليات التفجير ضد اهداف مدنية وعسكرية غربية (اميركية واوروبية) من دون اي مشروع سياسي، ومن دون معرفة الخطوة التي ستعقب تلك التفجيرات ومن دون تقدير حجم الضرر على المسلمين من جرائها.. فان الاتجاهات الاسلامية الاخرى تندد بالسياسات الاميركية وتعلن مناصبتها العداء، ولكنها لا توجه نيرانها اليها مباشرة، فهي اما انها تقاتل الاحتلال الاسرائيلي أو انها تتعامل مع الحكومات في بلدانها بالسلم حينا وبالعنف حينا آخر. وما يمكن ملاحظته ايضا ان هذا التيار الذي يخوض (جهادا) على مستوى العالم كله، ويدعو المسلمين و(الامة) كافة الى الالتحاق به، (من دون ان تستجيب الأمة لذلك) لا يحقق انفصاله عن الغرب وحده، ولو بقتاله، بل تراه ينفصل عن الامة نفسها، التي يدعوها الى الالتحاق به او يقاتل باسمها، فالممارسة الدينية الصارمة للحياة اليومية، وادانة كل انواع الاستعارات الثقافية وكل اشكال العلاقات الاجتماعية التي لا يحكم هذا التيار بصحتها، والتبرؤ من كل المذاهب الاسلامية الاخرى الى حد تكفيرها.. وإهمال القضايا الكبرى أم كانت سياسية أم اجتماعية ام اقتصادية.. فصل هذا التيار وربما من حيث لا يشعر اتباعه عن جسد الامة الذي يحيا بنمط آخر من التفاعل ومن التحولات التي يمتزج فيها القديم بالجديد ، والداخل بالخارج، والاسلام بالغرب.. وهم بهذا المعنى لا ينفصلون كما يعتقدون عن ثقافة الغرب وحده، بل ينفصلون ايضا عن ثقافة الامة الجامعة التي تختلط فيها الاعراق واللغات والثقافات.. وكأن هذا التيار الذي يقاتل من خارج اي ارض، يدعو الى (امة افتراضية) خيالية ومجردة لا قضايا لها ولا فروقات في داخلها،، وبما ان (ارض الاسلام) غير موجودة (لأن كل الحكومات كافرة بدرجة او باخرى) فأرض الجهاد ايضا لا يمكن تحديدها بزمان أومكان.. كما ان (المؤمن) نفسه الذي يقاتل من داخل هذه (الجبهة العالمية) التي يقودها اسامة بن لادن وايمن الظواهري يتجرد من بيئته ولا يقاتل من اجل بناء حكومة اسلامية في بلده بل يريد ان يعيش وفقا لمعايير الاسلام، وان يقاتل الغرب، الذي يمنعه ويمنع باقي المؤمنين ان يعيشوا اسلامهم. فهو لا يقاتل اذن من اجل انقاذ ارض اسلامية (فلسطين على سبيل المثال) أو لاسقاط حكومة غير اسلامية (في بلده الذي ينتمي اليه) بل يقاتل على حدود العالم، من دون اي مركز يستند اليه، دفاعا عن (الاسلام المهدد) الذي اخذت (الجبهة العالمية لقتال اليهود والنصارى) على نفسها حمايته، وبالطريقة التي رأتها مناسبة من اجل تلك (الامة الافتراضية) ([6]) التي يتواصل افرادها عبر (الانترنت) والتي لم تلتحق بهم لغاية اليوم([7]). إن الفتاوى التي صدرت من كثير من العلماء في المملكة السعودية وفي مصر وفي بلدان اسلامية اخرى([8])، تتبرأ من هذا التيار وتدين مايقوم به، خصوصا بعد التفجيرات التي استهدفت مبان سكنية، وكنيس يهودي، ومقار ديبلوماسية ودولية، في أكثر من دولة عربية واسلامية.. سيزيد من عزلة هذا التيار على الرغم من الاهتمام الاعلامي به. خصوصا ان الاهداف التي ينشدها والاساليب التي يستخدمها قد تثير الاهتمام على المستويات كافةولكنها لا تحقق التغيير المنشود، ولا يمكن ان تعمر طويلا. ناهيك بما تقدمه تلك الاساليب من مبررات ذهبية في كثير من الاحيان للولايات المتحدة لمزيد من الاجراءات الامنية ولمزيد من الضغوط على الحكومات الاسلامية وعلى المنظمات الجهادية ضد الإحتلال وعلى الجمعيات الاسلامية باتجاهاتها كافة. ان ماتقدم يسمح بالاستنتاج بأن مشكلة العالم الاسلامي مع الغرب تختصر في هذه الحقبة بالسياسات الاميركية نحوه. وأن مشكلة اسلاميي هذا العالم هي في هذا التيار الذي يريد أن يجعل المواجهة مع الغرب مواجهة شاملة، وأن يختصرها ويختصر الاسلام والجهاد في الوقت نفسه بما يقوم به هو فقط من عمليات، ومن تفجيرات في أكثر من مكان. وان تطويق وعزل التداعيات السلبية لتلك العمليات حتى لا يختصر الاسلام والمسلمون بهذا النموذج، لن يكون بالملاحقات الامنية بأيدي داخلية أو خارجية.. بل وهذا هو الأهم بتنامي وثبات وحضور التيارات الاسلامية الآخرى: من تيار المراجعة والانفتاح؛ الى تيار المشاركة وحوار الحضارات ؛ الى تيار الوحدة الاسلامية؛ الى تيار المقاومة ضد اسرائيل. -------------------------------------------------------------------------------- [1]– رئيس تحرير مجلة كلية الشريعة – جامعة القرويين - فاس. [2]– مارلين نصر، صورة العرب والاسلام في الكتب المدرسية الفرنسية، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت 1998. - Saddek Sabah, L lslam dans lc discours mediatique. Comment lesmedias Se representent Lislam en France? [3] - L’Autre Bertrand Badie, Presses De Sciences Po, Paris 1996, Page:244. [4]– عبد الوهاب المؤدب، أوهام الاسلام السياسي، دار النهار، بيروت، 2002 . [5]– طلال عتريسي، الاسلاميون والديمقراطية، قراءة في استراتيجية التصالح، في الاسلام والفكر السياسي: الديمقراطية/ الغرب / ايران، المركز الثقافي العربي، 2000. [6]– اوليفية روا (عولمة الاسلام) دار الساقي، بيروت – الطبعة الاولى 2003. [7]– اطلق اسامة بن لادن اكثر من نداء للمسلمين للجهاد ضد الغرب، والقى الظواهري نداء الى الشعب الباكستاني لاسقاط الحكومة الباكستانية.. من دون اية استجابة ةبارزة. [8]– راجع دعوة عضو مجلس شورى (الجماعة الاسلامية) في مصر اسلاميي السعودية الى القاء سلاحهم (الاهرام في 18/8/2003) وتنديد الشيخ ناصر الفهد السعودي بالاعتداء على مجمع المحيا في الرياض، ودعوته الشباب السعودي لعدم الذهاب للجهاد في العراق. (السفير والوكالات في 24/11/2003)