الاجتهاد بين المعوقات والآفاق أ.د. محمد البشير البوزيدي ([1]) يحظى موضوع الاجتهاد باهتمام كل باحث يسعى إلى تعميق فهمه للحضارة الاسلامية والبحث عن مقوماتها وعوامل تطوّرها، ولا يخفى أن الاجتهاد من هذه المقومات وأن تطور حضارتنا وانكماشها رهين موقف المسلمين منه، وطرق ممارستهم له، لذا كان موضوع الاجتهاد دائم التجدد تجدّد الزمان والمكان والمشاكل، خاصة في هذا الوقت الذي تمر فيه المجتمعات الإسلامية بتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية تختلف مظاهرها من قطر إلى آخر ولكن قضيّة التقدم تشكل قضيّة محوريّة بينها، وكذلك مسألة التشريع الذي يؤطر هذا التقدم في ظرف اتسم بالمد العلماني والعلمي وتسلط المؤثرات الخارجية من ايديولوجيات وتقنيات من شأنها تغيير رؤية الإنسان للوجود وبديهي أن تكون لهذه المؤثرات فعاليتها حتى على الفكر الديني من حيث الصياغة والمنهج والمصطلح، والمفكر المسلم يطمح أن يكون في مستوى الخطاب الحضاري المعاصر وأن يكون خطابه في نفس الوقت خطاب هوية يبغي التأسيس من منطلق المغايرة لا النمطية، ومن هنا تطرح قضية التشريع الإسلامي وإمكانية تطويره ليساير تبدل الأحوال الاجتماعية والفكرية والاقتصادية في دول تقر مبدئيا بالإسلام دينا لها باعتباره مصدر تشريع، وأساس ثقافة واخلاقية وليست الظاهرة غريبة فالمجتمعات الإسلامية مشدودة إلى الوحي، والحضارة الإسلامية حضارة فقه أساسا. «فسواء نظرنا إلى المنتجات الفكريّة.. من ناحية الكم أو نظرنا إليها من ناحية الكيف فإننا سنجد الفقه يحتل الدرجة الأولى بدون منازع» ([2]) فالشعور الديني في المستوى الفردي والجماعي قوي والحضور الفقهي في ضمائر الذين يتصدون لوضع القوانين شديد.. ولئن اضحى «الاجتهاد» امرا واقعا لا جدال فيه بحكم الضرورة فإن أمر الخوض في شأنه لا يخلو من بعض المعوقات، من ذلك سعي بعض «المثقفين» إلى إخراج الاجتهاد من دائرة الفقهاء بحجة أن هناك مسائل مهمة يرتبط بها تقدم المجتمع ولابد للمثقف أن يتدبرها وأن يجتهد فيها، ومن هنا صار من العسير تحديد دلالة واحدة للفظ «الاجتهاد» فلئن كانت من المنظور الديني السائد مصطلحا نما مدلوله بنمو المعطيات المحيطة بنشأة الفقه الإسلامي فإنها اقترنت في وقتنا الحاضر بظروف تاريخية عامّة جعلتاه نواة لألفاظ حافة بها أخرجتها اولاً عن حقلها الدلالي الاصطلاحي السائد ونزلتها في سياق حضاري معاصر يتميز بخصوصية قضاياه وتشابكها. وإننا نفضل منهجيا التعامل مع لفظ «الاجتهاد» في جدليته مع المتصور الذي يتضمنه. المقصود بالاجتهاد: إن مادة «ج. هـ . د» تدل بصفة عامة في قواميس اللغة على معاني الجد والجهد وبذل الطاقة ومن معاني صيغة افتعل في العربية القيام بمعنى الفعل المجرد لفائدة الفاعل، فاجتهد تفيد إذن بذل الجهد واستفراغ الوسع في الفعل من الأفعال، وتؤكد التحديدات اللغوية إن هذا الفعل لا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد فيقال مثلا: اجتهد في حمل حجر الرحا ولا يقال اجتهد في حمل خرذلة([3]). اما المعنى الاصطلاحي للفظ فهو كما يحدده الغزالي: «بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة... والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد الطلب». إن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ثابت بالقرآن في مثل قوله تعالى »إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله» (النساء: 105) ومثل قوله تعالى «كذلك يفصل الآيات لقوم يعقلون» (الروم: 8) «أفلا يتدبرون القرآن» (النساء: 82) الى غير ذلك من الآيات العديدة التي ورد فيها الحث على التفكير وإعمال العقل والاستنباط([4]). وقد استعمل القرآن الكريم مادة »النفر« للتفقة في الدين »وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون» (التوبة: 123) فالنفر للتفقة في الدين واجب كفائي، وتنكير »الطائفة التي تنفر لذلك في الآية السالفة مؤذن بهذا، وصيغة «التفقه» دالة على تكلف حصول الفقه أي الفهم في الدين كما يوضح ذلك الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره «التحرير والتنوير» وذلك يشعر أن فهم الدين أمر دقيق المسلك لا يحصل بسهولة ولذلك جاء في الحديث الصحيح »من يرد الله به خيرا يفقه في الدين» ([5]) ولذلك جزم العلماء بان الفقه أفضل العلوم. ثم يقول الشيخ في معرض تفسيره للآية السابقة: ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث أن كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين، فهذا يؤيده بتوسع سلطانه وتكثير اتباعه والآخر يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأن يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه فإنّ اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والسياسة وأولى الرأي المهتمين بتدبير ذلك السطلان» ([6]). وإذا كان القرآن قد استعمل كلمة الجهاد مرارا وتكرارا بينما لم يستعمل كلمة الاجتهاد وما يتعلق بها من المصطلحات ككلمات: فقيه ومجتهد واستحسان ومصالح مرسلة ونحوها فذلك بأن هذه المصطلحات لم تتضح الا بعد القرن الأول، حينما بدأ عهد التدوين والتقعيد ووضع المصطلحات الشرعيّة وإبرازها تباعا في أزمان متفاوتة، ولكن مضامينها ومعانيها مبثوثة في آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة النبوية، مثلما كانت مغروسة في نفوس الصحابة والتابعين ماثلة في أذهانهم، سارية في تفكيرهم واجتهادهم([7]). ان الاجتهاد ضرورة من ضرورات الأمة. وهو السبيل الأمثل لبيان أحكام الشرية في المستحدثات والمستجدات ومتابعتها بمقدرة وكفاءة حتى يعرف المسلمون حدود الحلال والحرام والخير والشر، فتبقى الشريعة متجدّدة مزدهرة مستجيبة للتطورات التي يعرفها المجتمعات في شتى ميادين الحياة فالنصوص محدودة والوقائع متجددة ومتزايدة ومتشعبة ولا يمكن الإحاطة بحدودها يقول الشهرستاني وبالجملة نعلم أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم قطعا أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا يتصور ذلك أيضا، والنصوص، ذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، حكم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بعدد كل حادثة اجتهاد» ([8]) -------------------------------------------------------------------------------- [1]– أستاذ بجامعة الزيتونة – تونس . [2]– محمد عابد الجابري، الفقه والسياسة: مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 24، شباط 1983 . [3]– الغزالي: المستصفى 2/350 طـ القاهرة 1937 . [4]– نفس المصدر، 2/350 . [5]– رواه الامام احمد عن ابي هريرة والبخاري ومسلم ورواه الدرامي والترمذي: الجامع الكبير: 1/842. [6]– محمد الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير 11/59 الدار التونسية للنشر. [7]– انظر الاجتهاد د. عبد المنعم النمر ص 65 الهيمنة المصرية العامة للكتاب سنة 1987 . [8]– الملل والنحل للشهرستاني على هامش الفصل في الملل والنحل لابن حزم 2/37 – 38 مكتبة المثنى ، بغداد.