وبقي الأمر على هذه الحال حتى حصلت حملة نابليون وقامت دولة محمد علي الذي سعى لإقامة دولة عصرية قوية فنظم الإدارة، واهتم بالصناعات، وشيد السدود والقناطر، وأنشأ جيشاً وطنيا قويا وأسطولا بحريا، وأسس المدارس. ولكي يتخلص من التبعية للدول المتقدمة أرسل عدة بعثات علمية من الطلبة المصريين إلى فرنسا ليعودوا إلى وطنهم وقد أتقنوا العلوم الحديثة فيقومون بنشرها على أوسع نطاق. كانت البعثات الأولى مخصصة لدراسة العلوم العسكرية في بادئ الأمر، غير أنها تجاوزت ذلك لدراسة علوم أخرى كالطب والهندسة والسياسة والإدارة والاقتصاد السياسي والزراعة والمعادن والتاريخ الطبيعي والترجمة الشاملة لمختلف العلوم والفنون والآداب. وحينما اتجه محمد علي لتطوير أقدم مؤسسة تعليمية في مصر وهي الجامع الأزهر جوبه بمعارضة العلماء التقليديين الذين يرون ضرورة بقاء القديم على قدمه، مما اضطره إلى إنشاء مدارس منفصلة تدرس فيها العلوم الجديدة مع شيء من علوم الدين، وكانت تلك بداية لانشطار التعليم إلى ديني لا يعرف إلا القليل عن علوم الدنيا، ومدني لا يعرف إلا القليل عن علوم الدين، الأمر الذي ترتب عليه فيما بعد انفصال عميق في العقل المسلم تجاه المشكلات الخطيرة التي بدأت تعيشها المجتمعات المسلمة على ضوء التقدم الحضاري المتصاعد الذي يمسك الغرب فيه بزمام القيادة. فهناك من رأى أن الحلول لمختلف مشكلات المجتمع تكون بالرجوع إلى الموروث أيا كانت طبيعته مع النظر إلى العلوم الجديدة الوافدة بعين الشك والريبة، وهناك من رأى بأن الطريق الأنجع للنهوض بالأمة هو الاستفادة من المنجزات الحضارية الكبيرة التي حققتها أوروبا في ميادين الحياة المختلفة نظرا لإيمانها بالعلم التجريبي والرياضي، وتحرير إرادتها السياسية من سيطرة الكهنوت، ليقرر الشعب مصيره بنفسه. وتجدر الإشارة إلى أن التيار الثاني لم يكن قد انفصل بعد كلية عن تراثه