جرائم الإختراق الثقافي الغربي وسبل مواجهتها» قراءة في الصراع الفكري بين الإسلام والغرب د. مهدي الكبيسي لاشك أنّ الحدث الأهمّ الذي وضع العرب خصوصاً والشرق عموماً في مجرى التاريخ هو ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية في بداية القرن السابع الميلادي. وما كاد عام 732م (113 هـ) ينصرم حتى كان المسلمون قد تدفقوا خارج حدود الجزيرة العربية حاملين رسالة الإسلام إلى العالم الوسيع، ومقيمين امبراطورية عظيمة، وعلى حدّ تعبير المؤرخ فيليب حتّى: أعظم من روما في ذروة قوتها، امبراطورية تمتدّ من خليج بسكاي الى جزر الهند الغربية وحدود الصين، ومن بحر العرب إلى مساقط المياه لأعالي النيل، فبإسم الله ينادى خمس مرات في اليوم من آلاف المنائر المنتشرة في جنوب غربي اوربا وافريقيا الشمالية وآسيا الغربية والوسطى([1]). حدث هذا في الوقت الذي كانت هناك قوتين عظميين تحكمان العالم: بيزنطية المسيحية وساسان الزرداشتية في فارس، حيث لم تستطع هاتان القوتان الأعظم - وقد أنهكتهما الحروب الإستنزافية المتبادلة على مدى ثلاثة قرون ـ أن تقاوما القوة الجديدة. فقد إنهارت الإمبراطورية الفارسية، وطردت البيزنطية شمالاً إلى الأناضول في مدة لاتتجاوز الخمس والعشرين سنة. وبهذا يكون الفتح الإسلامي قد غيّر وجه العالم، وكما يقول: ناتنغ: وليس هناك من إمبراطورية بلغت هذه الأبعاد وتمّ كسبها بمثل هذا الوقت([2]). إنّ هذه الفتوحات الإسلامية الواسعة جعلت المسلمين على تماس حادّ بثقافات مختلفة، مثل: الثقافة اليونانية والفارسية والهندية، ولم يقتصروا على إستيعاب تراث هذه الثقافات فحسب، بل تفاعلوا معها وأضافوا إليها كذلك إضافات جوهرية واسعة بعدما ترجمت إنجازاتهم في كافة حقول العلم والمعرفة، وخاصة في الطب والبصريات والكيمياء والفلك والجغرافيا والفلسفة إلى اللغة اللاتينية. لكن إنجازات المسلمين الفكرية ومساهماتهم في المعرفة الإنسانية قد قُلِّلت أهميتها وشوّهت ولم يُعترف بها، بل انّ الغرب ـ وهو العدو المقابل ـ قمع كل من حدّثته نفسه أن يبدي أيّ تعاطف يسير مع الإسلام أو المسلمين، كما حصل للعالم «وليم وستن» خليفة نيوتن، والاستاذ في جامعة كمبردج حينما أدّت حماسته للإسلام الى طرده من الجامعة عام 1709م([3]). الغزو الغربي: إنّ من أهم أسباب نشوء هذه النظرة غير المنصفة يعود الى ما يتّسم به الغرب من غرور مفرط، وهذه الحقيقة يؤكّدها الغربيون أنفسهم وعلى ألسنتهم. فقد كتبت الصحفية الاميركية المعروفة مرّة تقول: إنّ المسيحيين يبدون مغرورين الى درجة لاتصدق، وخصوصاً عندما يصل الأمر إلى الأديان الأخرى([4]). وعزا هذا الغرور الاستاذ محمد أسد (ليوبولد فايس سابقاً) إلى الإرث اليوناني والروماني، فكتب يقول: انّ اليونانيين والرومانيين نظروا إلى أنفسهم على أنّهم هم وحدهم المتمدنون، أمّا كل من كان اجنبياً عنهم وعلى الأخصّ أولئك الذين كانوا يعيشون شرق البحر المتوسط، فقد كان اليونانيون والرومانيون يطلقون عليهم كلمة «البرابرة»، ومنذ ذلك الحين والاوروبيون يعتقدون أن تفوّقهم العنصري على سائر البشر أمر واقع، ثم انّ أحتقارهم الى حدّ بعيد أو قريب لكل ما ليس اوروبياً من اجناس البشر وشعوبهم قد أصبح احدى الميزات البارزة في المدنية الغربية([5]). كراهية متأصّلة: على أنّ هذا وحده لا يكفي لاظهار مايكنّه الاوروبيون نحو الإسلام خاصة، بل يعزو أيضاً الى الكُره العميق الجذور الذي يحمله الاوروبيون في قلوبهم تجاه المسلمين. وهذا الكره ليس عقلياً فحسب، وإنما يصطبغ بصبغة عاطفية قوية. إذ ما أن تتجه المسألة نحو الإسلام حتى يختل التوازن الغربي، ويأخذ الميل العاطفي بالتسرّب. وهذا ما يتجلّى في كتابات المستشرقين الأوروبيين، حيث يظهر في أغلب كتبهم وبحوثهم على أنّ الإسلام متّهم يقف أمام قضاته، وهم يمثلون دور المدّعي العام الذي يحاول إثبات الجريمة. وفي الجملة فانّ طريقة بحوثهم وإستقراءاتهم حول الإسلام تذكرنا بوقائع محاكم التفتيش التي انشأتها الكنيسة الكاثوليكية لخصومها في العصور الوسطى، ولذا تراهم «ينتشون سروراً خبيثاً حينما تعرض لهم فرصة ـ حقيقية أو خيالية ـ ينالون بها من الإسلام عن طريق النقد»([6]). فضلاً عن ذلك فأن الافتراضات والنظريات التي يطرحها المستشرقون والمؤرّخون الأوروبيون أمثال: برنارد لويس، جب، فون غرونبوم، بروكلمان قد أضافت إلى الواقع المشوّه تشويهاً جديداً، لأنّ هؤلاء قد كتبوا ما كتبوا متأثرين بتركة إستشراق القرن التاسع عشر، وهي تركة على حدّ تعبير سي. آدمز: أرهبت عدداً من العلماء فتهيّبوا من محاولة إعادة فحص القضايا الجوهرية([7]). والحق الذي يمكن أن يقال: انّ هؤلاء المستشرقين وأضرابهم انّما يمثّلون طلائع مدنيّتهم وفكرهم التبشيري البغيض. فإننا من أجل ذلك ـ كما يقول الأستاذ محمد أسد ـ: يجب أن نصل ضرورة إلى أن نستنتج انّ في العقل الاوربي على العموم ـ لسبب ما ـ ميلاً عن الإسلام بما هو دين وبما هو ثقافة، انّ سبباً واحداً لذلك يمكن أن يعزى إلى الأرث الذي قسّم العالم يومذاك: أوربيّين وبرابرة، وأمّا السبب الآخر وهو أشدّ صلة مباشرة بالإسلام فيمكننا ان نتبعه إذا ولّينا أبصارنا شطر الماضي وخصوصاً إلى تاريخ العصور الوسطى([8]). كيف؟؟ فعندما صدع النبي(ص) بالدعوة كانت هناك ثلاث قوى مضادة تتباين في مواقفها تجاه الدين وهي: مشركو قريش، والنصارى، واليهود. وفيما كان موقف المشركين المعادي القائم على الجاه الاجتماعي والمصالح التجارية واضحاً، فانّ موقف اليهود السلبي إنما «كان مستنداً على خلفية الإحساس بالتفوّق الديني تجاه كل ما يمكن أن يظهر كمعارضة للتقليد التوراتي، والمستند أيضاً على الغرور العرقي والثقافي، خلافاً للنصارى الذين بدوا اكثر تحفّظاً واقل قتالية»([9]). والقرآن الكريم يستعرض هذه المفارقة بوضوح، قال تعالى: (لتجدنّ أشد الناس عداوة للّذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وانّهم لا يستكبرون)([10]). ويمكن أن نعتبر أن حادثة المباهلة مع وفد نصارى نجران بمثابة أقصى حالات المواجهة يومذاك. لكن بعد ان توالت الانتصارات الإسلامية الساحقة على الصعيد العسكري، وتحرّكه بإتجاه اوربا، وسلسلة الفتوحات الإستراتيجية في العمق المسيحي، بدأ ردّ الفعل السلبي واضحاً عند المسيحيّين ضد المسلمين، وخصوصاً من الذين كانوا يعايشونهم في البلاد التي فتحوها، فلم يرحّبوا على الإطلاق بالإسلام رغم التسامح الذي كان يبديه ايّاهم المسلمون والأقليات الاخرى. فقد اتّخذ موقفهم السلبي نمطين اثنين: الأول: ولاسيما من الرهبان، فقد سعوا الى تقليل أثر الصدمة بوصف هذه الفتوحات وتأويلها في إطار كنسي صرف بكونها ما هي الاّ إنتقام الهي من المعاصي الكثيرة التي أرتكبها المسيحيون، وتحقيق للتنبؤات الواردة في النصوص التوراتية، وعلى أمل أن يهبط منقذ المسيحية ويصدّ التحرك الإسلامي «المعادي» بفتح مسيحي مضادّ فوراً وبرعاية السماء!. الثاني: ولاسيما من أصحاب القرارات السياسية، فقد اعتبروا المسلمين أعداءً سياسيّين وعسكريّين يجب مقارعتهم وبشتى الأسلحة المتوفرة. وقد سجّل هذين الموقفين بوضوح «يوحنا الدمشقي» الذي عاش بدمشق في عهد الأمويّين وعمل في دار الخلافة، في كتابيه «ينبوع المعرفة» و«مساجلة بين عربي ومسيحي»([11]). أمّا ردود الفعل الصادرة عن المثقفين والكتّاب المسيحيّين فقد اختلف عن موقفين: أحدهما: يسمح بتبنّي موقف إيجابي يميل إلى التأييد بإعتبار أنّ الإسلام يحمل من الأُسس الإبراهيمية الشيء الكثير كـ«سيبوس» مثلاً الذي كان يقرّ بالمباني الإبراهيمية للإسلام، بل ويذهب الى حدّ الإعتراف ببعض من النبوة المحمدية([12]). والآخر: سلبي فظّ تجاه العقيدة الإسلامية، وإعتبار الإسلام مجرد «هرطقة» ويرمي النبي(ص) بالكذب والبهتان المبين([13]). وقد ازداد هذا الموقف السلبي سوءاً بمرور الأيام جراء الأفعال التي كان يصنعها حكّام المسلمين اللامسؤولة تجاه الرموز المسيحية في البلاد الإسلامية كفعل الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي أمر بهدم المزارات المسيحية المقدسة في مدينة القدس، ممّا ساعد ـ بفعله هذا ـ على تكريس التصوّر السلبي السيء للإسلام عند عقلية الفرد المسيحي. كتبت الصحفية الإميركية «بربارا براون» تقول في صدد ذلك: كان في البداية ـ أي الموقف المسيحي تجاه الإسلام ـ ببساطة نوعاً من التذمر المكتوم، لكن عندما دمّر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله المزارات المقدسة المسيحية في القدس فانّ هذا التذمر تطور إلى صخب هادر، انّ المسيحيّين في أوربا كانوا يعيشون في خوف من غزو إسلامي، وكان عمل الحاكم بأمر الله هو القشّة الأخيرة([14]). الجهل المسيحي بالإسلام: حينما سمعت اوربا الغربية المسيحية لأول مرّة بالإسلام، وواجهتها تحدّي قوته المتزايدة لم يكن لدى اوربا حينذاك أيّة معرفة حقيقية بمن ستقاتله، فنتج عن هذا الجهل الممزوج بالخوف جملة من الأساطير والخرافات الخرقاء تضاهي ما تراكم في عهد اوغسطين. يقول «ريتشارد سويثرن» في تاريخه الموجز: إنّ الذي انصقل كثيراً وازداد تعقيداً هو الجهل الغربي، وليس المعرفة الصحيحة بالإسلام، أدّى هذا الجهل بالإسلام إلى التفكير بضرورة القيام بعمل ما بشأن الإسلام. والواقع انّ عدم الإنصاف يتمثل في التصور المسيحي للمسلمين ككفّار ووثنيّين يعبدون ديناً زائفاً، ولمحمد (ص) كساحر، بل نُظر إلى النبي(ص) على انّه كاردينال في كنيسة روما، فلمّا اُحبطت آماله في أن يصير بابا ثار وفرّ إلى الجزيرة العربية حيث أنشأ هناك كنيسة خاصة به([15]). ففي مثل هذا الجهل الفاضح الممزوج بالخوف والحذر «عشّشت وفقّست العديد من التصورات والمواقف والتأويلات الظالمة المشوّهة» على حدّ تعبير المستشرقة الالمانية د. آنا ماري شميل([16]). وتستمر هذه الرؤية القاصرة لتطبع الذهنية الغربية المريضة تجاه الإسلام ورسوله الأعظم(ص) وكتابه المجيد بمعونة جملة عوامل ومقومات أبرزها وجود الرموز التبشيرية والدوائر الغربية التابعة لها التي ما انفكت من العمل الدائب على تكريس هذا الواقع من خلال نسج الأساطير والخرافات حول الرسالة المحمدية البيضاء وحتّى يومنا الحاضر. ولئن تعامل الغرب ـ في البداية ـ مع الإسلام والمسلمين بشيء من الحذر، فانّه قد تجاوز هذه الحالة إلى ماهو أشد فيما بعد، فعندما وصل المسلمون إلى أبواب أوربا وانفتحوا عليها ديناً وحضارة، قابلهم الاوربيون بالخوف والرعب المشوبين بالحذر والرغبة في الصدّ والمقاومة، خاصّة بعدما أملت عليهم الكنيسة الرؤية الضبابية بإعتبار هؤلاء ما هم الاّ محتلّون وتوسعيون ومتوحشون وأعداء للمسيح في الوقت الذي شرعت الكنيسة لنفسها سياسة وحيدة الجانب تقوم على مواجهة «الخطر» الإسلامي، والعمل على إعادة الأمور إلى نصابها التي كانت عليه قبل ظهور الإسلام. كتب المستشرق الكبير «رودنسون» يقول: لقد كان المسلمون خطراً على الغرب قبل أن يصبحوا مشكلته، وفي الوقت نفسه عامل أهتزاز شديد في بنيان الوحدة الروحية للغرب، وإنموذجاً حضارياً بديلاً يمتاز بتنافسه وحركته الإبداعية المتسارعة وقدرته الهائلة على الإنفتاح والإستيعاب. وفي مواجهة تقدّم هذا الإنموذج على المستوى الجيوسياسي عبّر مثقفو الغرب عن شعور عام بالأندهاش أمام المسلمين، وبدا ذلك لهم وكأنه خطر على المسيحية([17]). ومن هنا كان لابد للكنيسة من إتباع برنامج دقيق يقوم على آلية عالية تعمل من أجل تكوين الصورة السلبية عن الشرق والإسلام لمواجهة هذا الخطر المحدق من جهتين: الأولى: تشريع الكنيسة الغربية لوحدة ايديولوجية متكاملة في مواجهة فكر الإسلام وحضارته. الثانية: إعتماد مشروع يهدف إلى تثبيت الإيمان المسيحي عند المسيحيّين من خلال تشويه الصورة الحضارية للإسلام ومايصل منها إلى مسامع الغربيّين بغية «تغيير ماترسخ في الوعي الغربي من إيجابيات الشرق الإسلامي»([18]). الحروب الصليبية: أتخذت الكنيسة الأوربية قرار الخيار العسكري كوسيلة فعّالة لوقف «الزحف» الإسلامي وقطع دابره من خلال إعلان حالة الحرب على البلاد الإسلامية وتحطيم شوكة الإسلام ومنعه من الخروق بإتجاه الديار الأوربية المسيحية، فحشدت لها الحشود، وعملت على تغطية ميزانيتها بأموال طائلة، ووجدوا الغطاء الذي يمكن أن يمرّروا عبره عملياتهم الوحشية، فأعلنوا أنّ هدف حملاتهم انّما هو لـ«تحرير» القدس وإنقاذها من أيدي «البرابرة» المسلمين الذين غزوا بلادنا وهتكوا مقدساتنا المسيحية. وهكذا اندلعت الشرارة الأولى للحملات الصليبية عام 1096م ولم تنطفىء إلاّ بعد عام 1291م، أي استمرّت زهاء قرنين تقريباً، بعدما إستنزفت فيها أوربا المسيحية كل طاقاتها المادية والبشرية والحضارية، وباتت أشبه بمتسكع يذرع الطرقات بحثاً عن مأوى أو غذاء. ولم تثمر عن أيّ شيء يمكن أن يكون مدعاة للإفتخار أو إنجازاً حيوياً في طريق الأهداف التي نشدتها الكنيسة من قبل. وفي الحقيقة انّ الغرب المسيحي الذي جاء إلى القدس للدفاع عن المدينة والمسيحيّين فيها لم يكن سوى باحث عن ذاته التي هدّدها الإسلام بزوالها. وهذا ما جعل «القدس» تبدو بالنسبة الى الغرب الصليبي ضرورة حيوية لدفع الخطر الإسلامي عن أوربا كمقدمة لإستعادة المبادرة الروحية المسيحية والهيمنة على الشرق كلّه. يقول «غاردنر» معترفاً بهذا الكلام: انّ الحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ هذه المدينة (القدس) بقدر ما كانت لتدمير الإسلام([19]). ولذا فإنّ الحملات الصليبية الطويلة الأمد إنما كانت لهدف آخر غير المعلن عنه، وهو تدمير الإسلام وعلى كافة الأصعدة من خلال ضرب العمق الإستراتيجي للدولة الإسلامية المتمثل في مدينة القدس المقدسة. ومنه يظهر انّ هذه الحروب إنما تمثل مرحلة إستراتيجية اتخذتها الكنيسة كوسيلة فاعلة مرحلية للوصول إلى الهدف المنشود، وآلية تكتيكية راهنة رأت الحاجة إلى استخدامها لتحطيم الوجود الحضاري للإسلام العزيز. والآن، وبعد مرور اكثر من سبعة قرون على إنتهائها يبرز تساؤل ملحّ اليوم: هل انّ الحركة الصليبية كانت مرحلة قد إنطوت صفحتها وإنقطعت أم أنها حالة ماتزال تتحرك في الواقع بصورة أو أُخرى؟؟ شبح الحروب الصليبية: لايخفى على كل باحث انّ الحروب ـ مهما قصرت ـ من شأنها أن تحدث أثراً في نفسية الشعوب التي اكتوت بنارها، وقد يمتد هذا الأثر لأجيال عديدة. وهكذا كان شأن الحروب الصليبية فانّها أحدثت أثراً من أعمق الآثار وأبقاها في نفسية الأوربي وذهنية الفرد الغربي البسيط، وذلك نظراً: * لطول مدتها وشدة ظراوتها. * للمؤثرات العنيفة التي استخدمها رجال الكنيسة لتهييج العوام وإبراز العاطفة تجاه المقدسات المسيحية المنتهكة في القدس وغيرها. * للحمية الجاهلية العامة التي أثارتها الكنيسة لدعم الجبهات بمقاتلين جهلة متخمين بالكراهية والحقد ضد كل ما له صلة بالإسلام. * للخسائر المادية والبشرية الهائلة التي افرزتها الحروب الطويلة. كتب الاستاذ محمد أسد يقول: انّ الاصطدام العنيف الأول بين أوربا المتحدة من جانب وبين الإسلام من جانب آخر، اي الحروب الصليبية يتفق مع بزوغ فجر المدنية الاوربية. وفي ذلك الحين أخذت هذه المدنية ـ وكانت لاتزال على اتصال بالكنيسة ـ تشقّ سبيلها الخاص بعد تلك القرون المظلمة... لقد كانت ثمة حروب بين المسلمين والاوربيّين قبل عصر الحروب الصليبية: كانت فتوح العرب في صقلية والأندلس، وكان هجومهم على جنوب فرنسا، ولكن كانت هذه المعارك قبل أن تستيقظ أوربا ويظهر وعيها الثقافي الجديد، فاتّسمت من أجل ذلك ومن جهة النظر الاوربية على الأقل: بطابع ذي نتائج محلية، ولم تكن المعارك قد فهمت بعد على وجهها الحقيقي انّ الحروب الصليبية هي التي عيّنت في المقام الاول والأهم موقف اوربا من الإسلام لبضعة قرون قادمة([20]). فكم من حروب كثيرة قد نشبت بين الشعوب على مدى التاريخ الإنساني، وكم من عداوة تولدت بين الاطراف المتحاربة، ولكنها بمرور الأيام تنقرض مع ولادة أجيال جديدة وعقود جديدة، إلاّ الحروب الصليبية فانّها ظلت عالقة بالنفوس لم تندثر وتنقرض عن ذهنية الشعوب الأوربية تجاه المسلمين. يقول محمد أسد أيضاً في ذلك: انّ الشرّ الذي بعثه الصليبيون لم يقتصر على صليل السلاح، ولكنه قبل كل شيء وفي مقدمة كل شيء كان شراً ثقافياً. لقد نشأ تسميم العقل في الغرب... في ذلك الحين استقرّت تلك الفكرة المضحكة في عقول الأوربيين من أن الإسلام دين شهواني وعنف حيواني، وأنّه تمسك بفروض شكلية وليس تزكية للقلوب وتطهيراً لها. ثم بقيت هذه الفكرة حيث استقرت ثم أصبح إحتقار الإسلام جزءاً أساسياً في التفكير الأوربي([21]). إذن هناك رؤية فكرية قد تهيأت في ذهنية الأوربي الغربي في القرن الثاني عشر، ثم توسّعت لتمتد حتّى القرن الثامن عشر وحتّى العصر الإستعماري، هذه الرؤية على حدّ تعبير الأستاذ هشام جعيّط: تنطلق من عداء واسع للنبي(ص) الذي بنبوته «الكاذبة» قد أوقف تطور الإنسانية بإتجاه المسيحية حسب المزاعم النصرانية([22]). لذا فإنّ شبح الحروب الصليبية ماتزال يتسكّع فوق ربوع أوربا التي ماتزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامي موقفاً يحمل آثاراً واسعة لذلك الشبح البغيض. وبهذا الصدد يقول الأستاذ جعيّط مؤكداً هذه الحقيقة ومتسائلاً بسخرية: إنّ الأحكام القروسطية المسبقة قد اُدخلت في اللاوعي الجماعي للغرب على مستوى عميق يسمح لنا بالتساؤل بجزع: إذا كان بإمكانهم أن يخرجوا منه؟!([23]). والجواب عليه نتركه إلى شهادات غربية اخترنا اثنين منها: شهادتان: أولى هذه الشهادات تدلي بها الألمانية الدكتورة «آنا ماري شميل» عميدة الإستشراق الألماني للعلوم الإسلامية، حينما أدلت بها عام 1991م تقول: لكم يبدو لي أحياناً انّ خوف الأوربيين من الزحف التركي (الإسلامي) مازال عالقاً بذاكرتهم التي لم تنس وقوف الترك مرتين امام أبواب فيينا عامي 1529 و1683م كأنّ ذلك الخوف الدفين لم تخب ناره، فتراه يصبغ سلوك كثير من الناس ازاء دين الترك الذي هو دين العرب والفرس ومسلمي شبه القارة الهندية([24]). وثانيها أدلى بها الدكتور مراد هوفمان الدبلوماسي الألماني وهو ينقل الإنطباع السائد خلال حرب الخليج عام 1991م التي نبشت ذكريات قد كانت دفينة قائلاً: الحق انّ العالمين كليهما: المشرق المسلم والمغرب المسيحي قد وقفا مراراً، ويقفان اليوم مرة اخرى أمام كومة من الحطام أثناء حرب الخليج، سرى الخوف إلى نفوس المسلمين الذين يعيشون في أوربا وأفريقيا، كما تسلّل الخوف أيضاً إلى نفوس المسيحيّين الأوربيين في المغرب العربي والشرق الأوسط. لقد بدأ الأمر كما لو أننا سنتورّط جميعاً في حرب صليبية من جديد! أو أننا سنعود إلى عهود الحروب الصليبية الغابرة([25]). إستراتيجية جديدة: كانت الحملات الصليبية الطويلة مدعاة للغرب في أن يقف وقفة تأمل مع الذات بعدما أخفقت بكل مارصدت لها من ميزانية وإمكانيات هائلة من تحقيق أهدافها المنشودة. فقد شعر الكثيرون من أصحاب القرارات السياسية والمفكّرين الاستراتيجيّين أن الحملات العسكرية لاتملك حظاً في النجاح، وأنّه لابدّ من التفكير بجدّية في ذلك، ووجوب إعادة النظر في الإستراتيجية السابقة وتجديدها نحو إستراتيجية جديدة تتّسم بفعالية أكثر ولاتشتمل على خسائر ولها أثر كبير في تغيير الواقع المتدهور، بينما ظلّ آخرون منهم يطالبون بالدعوة إلى استمرارها ودعمها مما كان قد تحقق. هذا في الوقت الذي كان كلا الطرفين يعرف أنّه «لم يعد ممكناً التصرّف بتهور أو اتباع الخاطرات كما حدث في الماضي القريب». لقد أدرك الاوربيون وساد الإعتقاد بينهم أنّ الصراع العسكري مع الإسلام لايجدي نفعاً، ولايكفي وحده لاسقاطه ودحره، وانّه لابدّ من التفكير بعمق في تنظيم برنامج عمل كامل يقوم بدراسة وفهم مضامين الفكر الإسلامي ومعرفة مواضع القوة والضعف فيه كمرحلة أولى، ثم محاولة نقضه وإحداث الشرخ في جدرانه لغرض إختراقه وتحطيمه من الداخل، وبالتالي ضرب إرادة المقاومة عند هذا الخصم العنيد ثم إستئصاله بالمرّة. ذلك لأنّ قوة المسلمين إنما هي بالإسلام، ففي حالة حدوث الإنفصال بينهما، و«الطلاق» بين الاثنين عندئذ يمكن كسر قوة المسلمين ودحر جحافلهم المنتشرة حول أوربا. ومن هنا دخلت المواجهة بين الإسلام والغرب المسيحي مرحلة جديدة مبتنية على إستراتيجية جديدة تعتمد الأسلوب الثقافي الفكري سلاحاً لها لضرب الإسلام وإيجاد الخطر الدائم على وجوده. إذ انّ مع حلول النصف الثاني من القرن الثالث عشر كان الموقف بين أوربا والإسلام قد بلغ درجة عالية من التعقيد وتباين وجهات النظر بين أصحاب القرار السياسي من الغربيّين واللاهوتيّين، وظهور أسباب جديدة للقلق كتزايد غير المسيحيّين في أوربا عدداً وعدّة، ودخول المغول على مسرح التاريخ بما يحملونه من نزعة تخريبية مما دفع بعض اللاهوتيين إلى البحث في إمكان إستخدام هؤلاء كأداة لضرب الإسلام عن طريق إتباع سياسية ذكية في التعامل معهم وفهم أهدافهم الحيوية. كل ذلك كانت عوامل مساعدة على حسم الجدل القائم بين الغربيّين لصالح الفريق الثاني الداعي إلى التصدي الفكري، وإستخدام اسلوب الأختراق الثقافي كوسيلة للوصول الى العمق الحضاري للمسلمين كبديل للحملات العسكرية غير المجدية. ولهذا استعيدت مكانة رائد هذا الاتجاه الأب «بطرس المبجّل» (1096 ـ 1156م) بعد أن ضاعت صيحاته وسط قعقعة السلاح وصليل السيوف، ولم تجد لأفكاره آذاناً صاغية عند الغربيين، خاصّة وقد كان الكثير من زملائه ممن يدعون لحلّ عسكري لقضية الإسلام، على اعتبار انّ الإسلام كان بالنسبة لهم خطراً عسكرياً حاضراً، والإجابة عنه يجب أن يتخذ طابعاً عسكرياً. غير أنّ الذي حصل انّ قائد الحملة الصليبية السابعة وهي الأخيرة «لويس التاسع» إثر عودته إلى فرنسا بعد وقوعه أسيراً في مدينة «المنصورة» بمصر أقنع المعنيّين في أوربا بعدم جدوى القتال مع المسلمين لأنهم يملكون عقيدة راسخة تدفعهم إلى الجهاد وتحضّهم على التضحية بالنفس والمال والولد. وهذا التصريح كان له الأثر الكبير في تغيير عقيدة ذلك الإتجاه الذي كان يرى أنّ الحلّ المناسب يجب أن يتخذ الطابع العسكري عند المواجهة مع الإسلام وأنصاره. الخطوة الأُولى: فكانت الخطوة الاولى التي قام بها الأب «بطرس المبجّل» أن رعى أول ترجمة للقرآن الكريم الى اللاتينية فانجزت عام 1143معلناً هدفه من عمله هذا قائلاً: «انّ نقطة البداية في حرب الإسلام هي القرآن»([26]). وقد شكّلت هذه الترجمة الأساس في مجال الدراسات الإسلامية بأوربا الغربية. كتب المستشرق الفرنسي «أ. م. هذي» يقول: انّ هذه الترجمة وكل الترجمات التي تلتها لم يكن لها أيّ هدف آخر سوى أن تكون الأساس لتوجيه المزيد من الادانات ضد القرآن، تلك الأدانات التي امتدّت سلسلتها على مدى قرون تتناثر عليها بعض أشهر الأسماء([27]). لقد توقّع «بطرس» هذا أن لا يلقى عمله في ترجمة القرآن ترحيباً من جانب زملائه اللاهوتيّين لأنّهم لم يكونوا يرون في الإسلام موضوعاً حقيقاً بالدراسة والتمحيص، بل يرونه مجرد «ظاهرة» اكتسبت طابعاً حربياً مؤقتاً لا تلبث أن تزول، شأنه شأن الحملات البربرية التي كانت تحدث بين الحين والآخر وفي كافة بقاع أوربا. بيد أنّه في عمله هذا قد أرسى رؤية بعيدة المدى لصالح المسيحية. فقد كان يعتقد أن التحدي الإسلامي لم يجد إجابة مسيحية مناسبة حتّى أيامه، ولذا رأى أنّه من الضروري مواجهة هذه «الهرطقة» التي تشكل بإعتقاده الأصل والأساس لكل الهرطقات التي كانت تغزو المسيحية الأوربية آنذاك بحزم وذكاء. لقد خطا «بطرس» الخطوة الأُولى في هذا الاتجاه مالم يستطع غيره أن يقوم به، وبذلك يكون قد دشّن عهداً جديداً في العلاقة مابين الغرب المسيحي والإسلام، لكنّها هذه المرة قائمة على مرتكز خطر، ذلك هو إختراق المشرق الإسلامي بسلاح آخر غير السلاح التقليدي، ولايحتاج إلى القوة في المبارزة، بل كل حاجته إلى الكلمات الرشيقة والمعلومات المفيدة. وهذا ما كان يؤكّده «بطرس» دائماً، ففي آخر كلماته الموجّهة إلى المسلمين مخاطباً إيّاهم قائلاً: انّني لا أهاجمكم كما يفعل كثيرون بيننا بالسلاح، انّني أوجّه إليكم كلمات فقط بغير عنف وبتعقّل وهدوء من غير كراهية وبحبّ كبير، انّني أحبّكم ولذلك أكتب اليكم!!([28]). التبشير مشروع جديد: غير أن آمال «بطرس» المتعلّقة بـ«هداية المسلمين» إلى الكاثوليكية قد خابت أيضاً، إذ بقيت نداءاته إلى كافة المسلمين حبيسة اللغة اللاتينية التي لايفهموها. أضف إلى ذلك مابرزت من أوضاع جديدة في خريطة المسيحية الكاثوليكية الغربية الأمر الذي دفع «بطرس» إلى الغاء الطابع الذي أراد أن يضع النقاش فيه مع الإسلام، وتخصيص هذه المسألة في المرتبة الثانية من سلّم الأولويات الخطرة التي تواجهها المسيحية يومذاك. وهذا مادفع راهب انجليزي يدعى «روجر باكون» (1214 ـ 1292م) إلى طرح مشروعه التبشيري المفصل على البابا بطريقة مباشرة ومن غير تردّد عام 1266م الذي تضمن عرضاً لحالة المسيحية، وجملة إقتراحات «خطرة» لإصلاح الحال، وسلسلة من النصائح للمستقبل. لقد إستطاع «باكون» هذا وللمرة الأولى أن يضع المسيحية في موقعها الحقيقي جغرافياً وبشرياً فيقول: هناك مسيحيون قليلون في العالم اليوم، أمّا سائر الأرض المعمورة فيغصّ بالكفّار الذين لا يجدون أحداً أن يهديهم إلى طريق الحقّ!([29]). وأمّا عن علّة ذلك فيقول: لأنّ المسيحية عجزت عن القيام بتبشير حقيقي، لأنّ الأهداف الموضوعة كانت خطأ في الأصل من جهة، ولأنّ البيّنة اللاهوتية للمسيحية من ناحية ثانية كانت قاصرة. أمّا خطأ الأهداف فناجم عن شهوة السكان لدى ذوي الأمر من المسيحيّين الأوربيّين، تلك الشهوة التي حالت دون وصول محاولات الهداية إلى أغراضها، إضافة إلى كون الحروب «المقدسة» عديمة الجدوى وعديمة النجاح، لكنّها حتّى لو حقّقت انتصارات عسكرية على الأرض لظلّت عديمة الجدوى، فلم يكن ممكناً ولا في الوسع احتلال الأرض كلّها،ولو كان ذلك لأُثيرت حفيظة المستعمرين على المحتلّين بحيث تتعذر الحياة معهم، وتعذر ـ طبعاً ـ هدايتهم الى طريق الحقّ([30]). ويدّعي «باكون» أنّ وضع العلاقات مع المسلمين في أيامه اكبر برهان على مايقول، ثم يضيف قائلاً: انّ المسيحية لن تنتشر وتنتصر بغير التبشير السلمي والموعظة الحسنة، غير انّ المسحيية الآن عاجزة عن القيام بمهام الدعوة والموعظة لأسباب ثلاثة: الأول: لا أحد يعرف لغات الشعوب التي يراد التبشير بينها. الثاني: لا أحد يعرف ماهية عقائد «الكفار» الذين يراد تبشيرهم. الثالث: لا أحد يملك الحجج المؤسسة على المعرفة لدعوة «الكفار» الى المسيحية الكاثوليكية. فأما تعلّم اللغات غير اللاتينية فعن طريق إنشاء مدارس متخصّصة يديرها ممّن يعرفون اللغات من الكاثوليك، وتهيئة كوادر مسلّطة يعتمد عليها في العمل التبشيري. وأما بالنسبة إلى ضرورة التعرّف على عقائد الآخرين وأصولها فقد دعا إلى انشاء علم جديد مختصّ بذلك. وأمّا حول النقطة الثالثة فقد دعا «باكون» الى ضرورة برمجة العمل المنظم والذكي لمواجهة خصوم المسيحية، ومؤكداً على ضرورة «تفهّم» الآخرين وإستمداد الفلسفة منهم لمعرفة مواقع قوتها وضعفها، «فعندما تتلقى المسيحية الفلسفة فسيكون بإمكانها صياغتها في ضوء الوحي، وبالتالي تستطيع أن تتحدّى الآخرين بالمنظومة الجديدة»([31]). ومن هنا يمكن القول بأنّ أطروحة «باكون» كانت إيذاناً بتدشين مرحلة جديدة من إكتشاف برنامج عمل جديد وخطير لمواجهة العالم الإسلامي وحضارته. راهب آخر: ثمة راهب آخر معاصر لباكون يدعى «توماس الاكويني»(1225 ـ 1274م) قد ترك ـ هو الآخر ـ بصماته الواضحة على المرحلة التالية. ولم تتضح بعد المعالم على وجود علاقة بين الرجلين، غير انّه مما لاشك فيه انّ تلاقي الراهبين في عديد من النقاط المشتركة ووقوفهما على مساحة متساوية في العديد من القضايا الحيوية الملحّة وقتذاك فانّه يمكن القول: إنّه توجد علاقة مابين الاثنين. لقد كان هناك اكثر من مؤشّر على انّ كلا الرجلين قد نال حظاً وافراً من الإطلاع على الفلسفة الإسلامية، فـ«توماس» كان مطّلعاً بشكل خاص على فلسفة إبن رشد، بينما «باكون» كان متأثراً الى حدّ بعيد بفلسفة إبن سينا حتّى عُدّ عميد الفلسفة بعد ارسطو([32]). وكان كلاهما قد تعرّض إلى الرهبان، وكلاهما واجه السجن بسبب آرائه الفلسفية حتّى عدّت بعض القضايا التي طرحاها خروجاً عن الدين. فانّ الكنيسة قد عدّت (219) قضية من قضايا «توماس الاكويني» الفلسفية خروجاً على الدين عام 1277م أي بعد وفاته بثلاث سنين، إلاّ إنّها عاودت فأعلنت قداسته عام 1323م فأضحى بعدها من اكبر فلاسفتها، ومازالت فلسفته اساس الدراسات اللاهوتية الكاثوليكية حتّى اليوم. وأمّا «باكون» فقد اتّهم بأنّه أحدث في التفسير اللاهوتي بدعاً وخروجاً عن المذهب الكاثوليكي فسجن على اثرها عام1277م لكنّه عدّ فيما بعد من كبار الفلاسفة اللاهوتيّين([33]). بداية الأختراق: عند ذاك بدأ النشاط التبشيري يأخذ صفة الجدّية، فكانت أُولى الرحلات قام بها بعض الرهبان الغربيّين فقصدوا الأندلس ابّان مجدها وانضمّوا إلى مدارسها وتثقفوا في جامعاتها وتعلّموا على يد علماء الإسلام في مختلف العلوم والمعارف. وكان من بين هؤلاء الراهب الشهير «جيرار دي كريمون» المتوفى عام 1187م([34]). ثم بدأ التحرك الإستشراقي ينشط أكثر فأكثر في هذا الصعيد، خاصة بعدما أرسل «فرانسوا الاسيزي» ستة من الرهبان إلى بلاد المغرب فسلكوا الطريق عبر إسبانيا وهم متنكرين بثياب التجار. وتوالت الرحلات تلو الرحلات بعدها. وفي عام 1311م حثّ «ريموندليل» المجلس العالي في فيينا على تأسيس مدارس للعربية ولغات شرقية أخرى لغرض العمل التبشيري بين المسلمين وهدايتهم الى طريق «الحقّ» والذي باشره بنفسه بإخلاص كبير([35]). وتجدر الإشارة هنا انّ سرّ إتجاههم نحو الدراسات العربية فالشرقية الإسلامية، لأنّ الأُولى كانت ضرورية لفهم الثانية، والإسلام بمجموعه يعتبر الدين المنافس الوحيد للمسيحية. وبمرور الزمن اتسع نطاق الدراسات الشرقية لتشمل أدياناً ولغات اخرى غير إسلامية. وعلى صعيد العمل التبشيري الانجليزي فقد كان أمثال: «يوم بدويل» و«جون غريفز» و«آموند كاستيل» و«ادوارد بوكوك» وغيرهم منهمكين في تأسيس دراسات عربية في جامعتي اكسفورد وكمبردج([36]). وأمّا على الصعيد الهولندي فقد اعتبر الراهب «ادريان ريلانت» من الاوائل الذين أخذوا يتشدقون بإستخدام الاساليب «العلمية» و«الموضوعية» في العمل التبشيري، فقد كتب مرّة يقول: لكي نأخذ الحيطة نحن المسيحيّون، وأن نتناول خلافاتنا معهم بطريقة عقلائية بحذر ولباقة، وأن نحاربهم من الآن فصاعداً بمزيد من الوضوح والعمق، وليس بعدد الإتهامات والإنكار غير المجديين([37]). وها هو الأب «ماراتشي» يخطب في جمع من الرهبان والقساوسة قائلاً: من الضروري اذن ألاّ نحارب الإسلام دون أن نعرفه تماماً، وفرصة هذا الصراع الحكيم تتزايد يوماً بعد يوم بسبب العلاقات المتزايدة بين الأوربيين ومسلمي تركيا وافريقيا وفارس والهند الهولندية، حيث نرى للأسف الكثير من المسيحيّين يلطّخون المسيحية بالعار. ولاشك أنّ فرصة انضواء المسلمين إلى الإيمان «الحقيقي» هي أن نظهر لهم العطف والتفاهم في المناقشات الدينية معهم بدلاً من أن نسبّهم ونكيل الفريات بكل سذاجة([38]). وبذلك إستطاع الغرب المسيحي أن يتبنّى خيارات أوسع من المواقف المتاحة لديه فيسمح بتيارات مختلفة بما فيها التيار الحضاري والتبشيري في مواقفه الموجّهة ضد الإسلام وأهله. وهذا ما حاول الإستفادة منه الاسقف المعروف «فيانتيوس وبادو» الذي أقام مدة طويلة في الشرق، وانتخب اسقفاً للفرانسيسكان الموجودين في فلسطين وسوريا وغيرهما([39]). فانطلاقاً من عدّة دلائل كإقامته بين ظهراني الجيش الاسلامي، ومكوثه الطويل في هذه البلاد الاسلامية يؤكدان أنّه كان مضطلعاً بمهام ذات طابع حسّاس. في هذا الصدد كتب الدكتور الدويهي يقول: في الفترة الممتدة من 1665 ـ 1745م طبع في فرنسا وحدها مايزيد عن مائة وخمسين رحلة، منها على الأقل مائة رحلة جديدة، قسم منها كبير إلى الشرق... ومّما يساعد في زيادة الإهتمام بالشرق تشجيع الوزير الأول الفرنسي «كولبير» للمسافرين عبر مدّهم بالمال واحتياجات الرحلة، وخلق أكاديمية النقوش والآداب، وإنشاء مدرسة شبّان اللغات الذين كانوا يُرسلون على حساب الملك إلى الشرق لدراسة وتعلّم اللغات الشرقية هناك([40]). وعلى هذا الترتيب انطلق المخطط الجديد، وبدأ التنفيذ حينما شرع هؤلاء بالتقاطر على شكل دفعات متوالية على المنطقة الاسلامية وتحت واجهات عديدة وبأسماء إسلامية من باب توزيع الأدوار بدقة عالية. تكملة المقالة في الصفحة التالية