ـ(45)ـ والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو ان تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلا لنطلب الحلف على قومنا، وقد أتانا الله بأفضل ما أتيت لـه(1). ومع ذلك كله فالتدرج هو المخيم على التشريع، خاصة فيما إذا كان الحكم الشرعي مخالفا للحالة السائدة في المجتمع، كما في شرب الخمر الذي ولع به المجتمع الجاهلي آنذاك، فمعالجة هذه الرذيلة المتجذرة في المجتمع رهن طي خطوات تهييء الأرضية اللازمة لقبولها في المجتمع. وقد سلك القرآن في سبيل قلع جذور تلك الرذائل مسلك التدرج. فتارة جعل السكر مقابلا للرزق الحسن، وقال: ?وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ?(2). فاعتبر اتخاذ الخمر من التمور والأعناب ـ في مجتمع كان تعاطي الخمر فيه جزءً أساسيا من حياته ـ مخالفا للرزق الحسن، وبذلك ايقظ العقول. وهذه الآية مهدت وهيئت العقول والطبائع المنحرفة لخطوة أخرى في سيرها نحو تحريم الخمر، فتلتها الآية الثانية معلنة بأن في الخمر والميسر اثما ونفعا، ولكن اثمهما اكبر من نفعهما، قال سبحانه: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ?(3). إن هذا البيان وان كان كافيا إلا أن جماهير الناس لا يقلعون عن عادتهم __________________________________________ 1 ـ الطبرسي: العام الورى: 55 ـ 57. 2 ـ سورة النحل: 67. 3 ـ سورة البقرة: 219.