فأما حد القذف والقصاص وغير ذلك من حقوق الناس والرجوع فيه بعد الإقرار باطل وللقاضي أن يلزمه ذلك بإقراره فكذلك له أن يلزمه بمعاينته سبب ذلك لأن معاينته السبب أقوى في إفادة العلم من إقرار المقربة وهذا إذا رأى ذلك في مصره الذي هو قاض فيه بعد ما قلد القضاء .
فأما إذا كان رأى ذلك قبل أن يتقلد القضاء ثم استقصى فليس له أن يقضي بعلمه في ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله .
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله له أن يقضي بعلمه في ذلك لأن علمه بمعاينة السبب لا يختلف بما بعد أن يستقصى وقبله وهو أقوى من العلم الذي يحصل له بشهادة الشهود فإن معاينة السبب تفيده علم اليقين وشهادة الشهود لا تفيده ذلك فإذا جاز له أن يقضي بشهادة الشهود عنده فلان يجوز له أن يقضي بعلم نفسه أولى ومذهب أبي حنيفة رحمه الله مروى عن الشعبي .
وشريح رحمه الله سئل عن هذه المسألة فقال أتى شريح رحمه الله مثلها وأنا شاهد فقال أنت الأمير حتى أشهد لك فقال أنشدك بالله أن يذهب حقي وأنت تعلم فقال أنت الأمير حتى أشهد لك والمعنى فيه أنه حين عاين السبب فقد استفاد به علم الشهادة وبأن استقصى بعد ذلك لا يزداد علمه بذلك وعلم القضاء فوق علم الشهادة فإن علم القضاء ملزم والشهادة بدون القضاء لا تكون ملزمة بخلاف ما إذا رأى وهو قاض لأنه استفاد علم القضاء هناك بمعاينة السبب .
والدليل على الفرق أن ما يستفيد من العلم بمعاينة السبب وما يستفيده بشهادة الشهود عنده في الحكم سواء ثم شهادة الشهود عنده بعد ما استقصى تفيده علم القضاء وقبل أن يستقصي لا تفيد له ذلك حتى لو استقصى شاهد الفرع لم يكن له أن يقضي بما كان من شهادة الأصول عنده ما لم يشهدوا بذلك بعد ما استقصى فكذلك عند معاينة السبب وعلى هذا الخلاف لو عاين السبب بعد ما استقصى ولكن في غير مصره ثم لما انتهى إلى مصره خوصم في ذلك لأنه حين عاين السبب لم يكن له أن يقضي به في ذلك الموضع فهو وما لو علم قبل أن يستقصي سواء ولو عاين ذلك في مصره وهو قاض ثم عزل ثم أعيد على القضاء فلا شك أن عندهما له أن يقضي بعلمه .
ومن أصحابنا رحمهم الله من قال عند أبي حنيفة رحمه الله أيضا له أن يقضي بعلمه لأنه استفاد علم القضاء بمعاينة السبب حتى لو قضى به في ذلك الوقت جاز ذلك فكذلك إذا قضى به بعد ما قلد ثانيا .
والأصح أنه على الخلاف لأنه بعد ما عزل لم يبق له في تلك الحادثة إلا علم الشهادة فهو وما لو علم به بعد ما عزل سواء .
توضيحه أنه لو سمع شهادة الشهود فلم يقض بها حتى عزل ثم أعيد على القضاء لم يقض بتلك الشهادة بخلاف ما قبل العزل فكذلك إذا عاين