[562] بحثان 1 ـ القيم الحقّة والقيم الباطلة لا شكّ أنّ كلّ إنسان يرغب بفطرته أن يكون ذا قيمة وافتخار، ولذلك فهو يسعى بجميع وجوده لكسب القيم... إلاّ معرفة معيار القيم يختلف باختلاف الثقافات تماماً، وربّما أخذت القيم الكاذبة مكاناً بارزاً ولم تُبق للقيم الحقّة مكان في قاموس الثقافة للفرد. فجماعة ترى بأنّ قيمتها الواقعية في الإنتساب إلى القبيلة المعروفة، ولذلك فإنّهم من أجل أن تعلوَ سمعةُ قبيلتهم وطائفتهم يظهرون نشاطات وفعاليات عامة ليكونوا برفعة القبيلة وسمّوها كبراء أيضاً. وكان الإهتمام بالقبيلة والإفتخار بالإنتساب إليها من أكثر الأُمور الوهميّة رواجاً في الجاهلية إلى درجة كانت كلّ قبيلة تعدّ نفسها أشرف من القبيلة الأُخرى، ومن المؤسف أن نجد رواسب هذه الجاهلية في أعماق نفوس الكثيرين من الأفراد والمجتمعات!! وجماعة أُخرى تعوّل على مسألة المال والثروة وامتلاكها للقصور والخدم والحشم وأمثال هذه الأُمور، فتعدّها دليلاً على القيمة الشخصيّة وتسعى من أجل كلّ ذلك دائماً. وجماعة تعتبر (المقامات) السياسية والإجتماعية العليا معياراً للشخصية والقيم الإجتماعية! وهكذا تخطو كلّ جماعة في طريق خاص وتنشدّ قلوبها إلى قيمة معينة وتعدّها معيارها الشخصي! وحيث أنّ هذه الأُمور جميعها أمور متزلزلة ومسائل ذاتية ومادية وعابرة فإنّ مبدأ سماوياً كمبدأ الإسلام لا يمكنه أن يوافق عليها أبداً.. لذلك يشطب عليها بعلامة البطلان ويعتبر القيمة الحقيقية للإنسان في صفاته الذاتية وخاصة تقواه وطهارة قلبه والتزامه الديني. حتى أنّه لا يكترث بموضوعات مهمّة كالعلم والثقافة إذا لم تكن في خطّ "الإيمان والتقوى والقيم الأخلاقية"... ومن العجيب أن يظهر القرآن في محيط يهتمّ بالقيمة القبلية أكثر من اهتمامه بالقيم الأُخرى، إلاّ أنّ القرآن حطّم هذه الوثنية وحرّر الإنسان من أسر العِرق والدم والقبيلة واللون والمال والمقام والثروة وقاده إلى معرفة نفسه والعثور على ضالّته داخل نفسه وصفاتها العليا. الطريف أنّ في ما ذُكر في شأن نزول الآية محل البحث لطائف ودقائق تحكي عن عمق هذا الدستور الإسلامي. منها: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر "بلالاً" بعد فتح مكّة أن يؤذّن، فصعد بلال وأذّن على ظهر الكعبة، فقال "عتّاب بن أسيد" الذي كان من الأحرار: أشكر الله أن مضى أبي من هذه الدنيا ولم يرَ مثل هذا اليوم.. وقال "الحارث بن هشام": ألم يجدْ رسول الله غير هذا الغراب الأسود للأذان؟! "فنزلت الآية الآنفة وبيّنت معيار القيم الواقعية"(1). وقال بعضهم: نزلت الآية عندما أمر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتزويج بعض الموالي من بنات العرب "والموالي تطلق على العبيد الذين عُتقوا من ربقة أسيادهم أو على غير العرب (المسلمين)". فتعجّبوا وقالوا: يا رسول الله أتأمرنا أن نزوّج بناتنا من الموالي "فنزلت الآية وأبطلت هذه الأفكار الخرافية"(2). ونقرأ في بعض الروايات الإسلامية أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب يوماً في مكّة فقال: "يا أيّها الناس إنّ الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان رجل برّ تقي كريم على الله وفاجر شقي هيّن على الله والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى: (يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير)"(3). وقد جاء في كتاب "آداب النفوس" للطبري أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التفت إلى الناس وهو راكب على بعيره في أيّام التشريق بمنى "وهي اليوم الحادي عشر والثّاني عشر والثّالث عشر" من ذي الحجة فقال: "يا أيّها الناس! ألا إنّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلاّ بالتقوى ألا هل بلّغت: قالوا نعم! قال: ليبلغ الشاهد الغائب"(4). كما ورد في حديث آخر بهذا المعنى ضمن كلمات قصيرة ذات معاني غزيرة أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إنّ الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا الى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنّن الله عليه وإنّما أنتم بنو آدم وأحبّكم إليه أتقاكم"(5). إلاّ أنّ العجيب أنّه مع هذه التعليمات الواسعة الغنية ذات المغزى الكبير ما يزال بين المسلمين من يعوّل على الدم والنسب واللسان ويقدّمون وحدة الدم واللغة على الأخوة الإسلامية والوحدة الدينية ويحيون العصبية الجاهلية مرّةً أخرى، وبالرغم من الضربات الشديدة التي يتلقّونها من جراء ذلك، إلاّ أنّهم حسب الظاهر لا يريدون أن يتيقّظوا ويعودوا إلى حكم الإسلام وحظيرة قدسه! حفظ الله الجميع من شر العصبية الجاهلية. إنّ الإسلام حارب العصبية الجاهلية في أي شكل كانت وفي أيّة صورة ليجمع المسلمين في العالم من أي قوم وقبيلة وعرق تحت لواء واحد! ـ لواء القومية ولا سواه ـ لأنّ الإسلام لا يوافق على هذه النظريات المحدودة ويعدّ جميع هذه الأُمور وهمية ولا أساس لها حتى أنّه ورد في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "دعوها فإنّها منتنة"(6). ولكنّ لماذا بقيت هذه الفكرة المُنتنة مترسّخة في عقول الكثيرين ممّن يدّعون أنّهم مسلمون ويتّبعون القرآن والأخوة الإسلامية ظاهراً؟! لا ندري!! وما أحسن أن يُبنى المجتمع على أساس معيار القيم الإسلامي (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) وإن تطوى القيم الكاذبة من قوميّة ومال وثروة ومناطق جغرافية وطبقية عن هذا المجتمع. أجل، التقوى الإلهية والإحساس بالمسؤولية الداخلية والوقوف بوجه الشهوات والإلتزام بالحق والصدق والطهارة والعدل، هي وحدها معيار القيم الإنسانية لا غير، بالرغم من أنّ هذه القيم الأصيلة نسيت وأهملت في سوق المجتمعات المعاصرة وحلّت محلها القيم الكاذبة. في نظام القيم الجاهلية الذي كان يدور حول محور "التفاخر بالآباء والأموال والأولاد" لم ينتج سوى حفنة سرّاق وناهبين، غير أنّه بتبدّل هذا النظام وإحياء أصل (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) الكبير كان من ثمراته أناس أمثال سلمان وأبو ذر وعمّار وياسر والمقداد. والمهم في ثورات المجتمعات الإنسانية هو الثورة على القيم" وإحياء هذا الأصل الإسلامي الأصيل! ونختتم كلامنا هذا بحديث للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال: "كلكم بنو آدم وآدم خُلِقَ من تراب ولينتهينّ قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان"(7). ــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ روح البيان، ج9، ص90، كما ورد في تفسير القرطبي، ص6160، ج9. 2 ـ المصدر السابق. 3 ـ تفسير القرطبي، ج9، ص6161. 4 ـ المصدر السابق، ص6162، والتعبير "بالأحمر" في هذه الرواية لا يعني من بشرته حمراء بل من بشرته حنطيّة لأنّ أغلب الناس في ذلك المحيط كانوا بهذه الصفة ومن الطريف أن يطلق الأحمر على الحنطة أيضاً. 5 ـ المصدر السابق. 6 ـ صحيح مسلم طبقاً لما نقل في ظلال الإسلام، ج7، ص538. 7 ـ في ظلال القرآن، ج7، ص538.