[553] 2 ـ لا تجسّسوا! رأينا أنّ القرآن يمنع جميع أنواع التجسس بصراحة تامّة، وحيث إنّه لم يذكر قيداً أو شرطاً في الآية فيدلّ هذا على أنّ التجسس في أعمال الآخرين والسعي إلى إذاعة أسرارهم إثم، إلاّ أنّ القرائن الموجودة داخل الآية وخارجها تدل على أنّ هذا الحكم متعلّق بحياة الأفراد الشخصية والخصوصية. ويصدق هذا الحكم أيضاً في الحياة الإجتماعية في صورة أن لا يؤثر في مصير المجتمع. لكن من الواضح أنّه إذا كان لهذا الحكم علاقة بمصير المجتمع أو مصير الآخرين فإنّ المسألة تأخذ طابعاً آخر، ومن هنا فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)كان قد أعدّ أشخاصاً وأمرهم أن يكونوا عيوناً لجمع الأخبار واستكشاف المجريات واستقصائها ليحيطوا بما له علاقة بمصير المجتمع. ومن هذا المنطلق أيضاً يمكن للحكومة الإسلامية أن تتّخذ أشخاصاً يكونون عيوناً لها أو منظمة واسعة للإحاطة بمجريات الأُمور، وأن يواجهوا المؤامرات ضد المجتمع أو التي يراد بها إرباك الوضع الأمني في البلاد، فيتجسّسوا للمصلحة العامة حتى لو كان ذلك في إطار الحياة الخاصة للأفراد! إلاّ أنّ هذا الأمر لا ينبغي أن يكون ذريعةً لهتك حرمة هذا القانون الإسلامي الأصيل، وأن يسوّغ بعض الأفراد لأنفسهم أن يتجسّسوا في حياة الأفراد الخاصة بذريعة التآمر والإخلال بالأمن، فيفتحوا رسائلهم مثلاً، أو يراقبوا الهاتف ويهجموا على بيوتهم بين حين وآخر!! والخلاصة أنّ الحدّ بين التجسس بمعناه السلبي وبين كسب الأخبار الضرورية لحفظ أمن المجتمع دقيق وظريف جداً، وينبغي على مسؤولي إدارة الأُمور الإجتماعية أن يراقبوا هذا الحدّ بدقّة لئلاّ تهتك حرمة أسرار الناس، ولئلاّ يتهدّد أمن المجتمع والحكومة الإسلامية!. 3 ـ الغيبة من أعظم الذنوب وأكبرها! قلنا إنّ رأس مال الإنسان المهم في حياته ماءُ وجهه وحيثيّته، وأي شيء يهدّده فكأنّما يهدّد حياته بالخطر. وأحياناً يعدّ اغتيال وقتل الشخصية أهم من اغتيال الشخص نفسه، ومن هنا كان إثمه أكبر من قتل النفس أحياناً. إنّ واحدةً من حِكم تحريم الغيبة أن لا يتعرّض هذا الإعتبار العظيم للأشخاص ورأس المال آنف الذكر لخطر التمزّق والتلوّث وأن لا تهتك حرمة الأشخاص ولا تلوّث حيثيّاتهم، وهذا مطلب مهم تلقّاه الإسلام باهتمام بالغ! والأمر الآخر إنّ الغيبة تولّد النظرة السيئة وتضعف العلائق الإجتماعية وتوهنها وتتلف رأس مال الإعتماد وتزلزل قواعد التعاون "الإجتماعي"! ونعرف أنّ الإسلام أولى أهميةً بالغةً من أجل الوحدة والإنسجام والتضامن بين أفراد المجتمع، فكلّ أمر يقوي هذه الوحدة فهو محل قبول الإسلام وتقديره، وما يؤدّي إلى الإخلال بالأواصر الاجتماعية فهو مرفوض، والاغتياب هو أحد عوامل الوهن والتضعيف... ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ الإغتياب ينثر في القلوب بذور الحقد والعداوة وربّما أدّى أحياناً إلى الاقتتال وسفك الدماء في بعض الأحيان. والخلاصة أنّنا حين نقف على أنّ الإغتياب يعدّ واحداً من كبائر الذنوب فإنّما هو لآثاره السيئة فرديةً كانت أم اجتماعية! وفي الروايات الإسلامية تعابير مثيرة في هذا المجال نورد هنا على سبيل المثال بعضاً منها! قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل وأربى الربى عِرض الرجل المسلم"(1). وما ذلك إلاّ لأنّ الزنا وإن كان قبيحاً وسيئاً، إلاّ أنّ فيه جَنبة حق الله، ولكنَّ الربا وما هو أشدّ منه كإراقة ماء وجه الإنسان وما إلى ذلك فيه جنبة حق الناس. وقد ورد في رواية أُخرى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب يوماً بصوت عال ونادى: "يامعشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه! لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّه من تتّبع عورة أخيه تتّبع الله عورته ومن تتّبع الله عورته يفضحه في جوف بيته"(2). كما ورد في حديث ثالث أنّ الله أوحى لموسى (عليه السلام) قائلاً: "من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنّة، ومن مات مصرّاً عليه فهو أوّل من يدخل النّار"(3). كما نقرأ حديثاً آخر عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه"(4). وهذا التشبيه يدلُّ على أنّ الإغتياب كمثل الجَرب الذي يأكل اللحم، فإنّه يذهب بالإيمان بسرعة. ومع الإلتفات إلى أنّ بواعث الغيبة ودوافعها أمور متعدّدة كالحسد والتكبّر والبخل والحقد والأنانية وأمثالها من صفات دميمة وقبيحة يتّضح السرّ في سبب كون الغيبة وتلويث سمعة المسلمين وهتك حرمتهم لها هذا الأثر المدمّر لإيمان الشخص. والروايات الإسلامية في هذا الصدد كثيرة، ونختتم بحثنا هذا بذكر حديث آخر نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) إذ يقول: "من روى على مؤمن روايةً يريد بها شينه وهدم مروّته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان"(5). إنّ جميع هذه التأكيدات والعبارات المثيرة إنّما هي للأهمية القصوى التي يوليها الإسلام لصون ماء الوجه وحيثيّة المؤمنين الإجتماعية، وكذلك للأثر المخرّب ـ الذي تتركه الغيبة ـ في وحدة المجتمع والإعتماد المتبادل في القلوب، وأسوأ من كل ذلك أنت الغيبة تسوق إلى إشعال نار العداوة والبغضاء والنفاق وإشاعة الفحشاء في المجتمع. لأنّه حين تنكشف عيوب الناس الخفيّة عن طريق الغيبة لا تبقى لها خطورة في أعين الناس ويكون التلوّث بها في غاية البساطة!. ــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ المحجّة البيضاء، ج5، ص253. 2 ـ المصدر السابق، ص252. 3 ـ المصدر السابق. 4 ـ أصول الكافي، ج2، باب الغيبة، الحديث 1 ـ الآكلة نوع من الأمراض الجلدية. 5 ـ وسائل الشيعة، ج8، الباب 157، الحديث 2، الصفحة 608.