[464] أوّلاً: تشير الآية إِلى عمل قبيح وجاهلي هو مِن أعظم الذنوب، فتنهى عنهُ: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إِملاق) فرزق هؤلاء ليس عليكم (نحنُ نرزقكم وإِيّاهم) أمّا علّة الحكم فهي: (إِنَّ قتلهم كان خطأ كبيراً). هذه الآية تفيد أنَّ الوضع الإِقتصادي للعرب في الجاهلية كان صعباً وسيئاً. بحيث أنّهم كانوا يقتلون أبناءهم في بعض الأحيان خوف العيلة والفقر. وهناك كلام بين المفسّرين فيما إِذا كانَ العرب في الجاهلية يدفنون البنات أحياء وحسب، أو أنّهم كانوا يقتلون الأبناء أيضاً خوفاً مِن الفقر! البعض يعتقد أنَّ الآيات تتحدث عن دفن البنت وهي حيَّة، هذا العمل الذي كان شائعاً في الجاهلية لسببين: الأوّل: يتمثل في الخوف مِن وقوعهن في الأسر أثناء الحروب، الأمر الذي يجعل الأعراض والنواميس تحت رحمة العدو. أمّا الثّاني: فيعود إِلى خوفهم مِن الفقر وعدم تمكنهم مِن توفير المؤونة للبنات اللاتي لا يقمن بعمل إِنتاجي، ويقتصر دورهن على الإِستهلاك فقط. صحيح أنَّ الولد في مطلع حياته لا ينتج، لكنّه في عرف عرب الجاهلية يعتبر رأسمالا ثميناً، لا يمكن التفريط به. البعض الآخر من المفسّرين يعتقد أن هناك نوعين مِن القتل، النوع الأوّل يشمل البنات، لحفظ الناموس حسب اعتقادهم الخاطيء. أمّا النوع الثّاني فسببهُ الفقر. وهو يشمل البنات والبنين معاً. ظاهر الآية يدل على هذا المعنى، لوجود ضمير الجمع المذكر في الآية في "قتلهم" وهذا الضمير يطلق في اللغة العربية على الولد والبنت معاً، وبالتالي فإِنَّه يستبعد اختصاصه بالبنات وحدهن. أمّا ما يقال مِن أنَّ الولد قادر على الإِنتاج، ويعتبر وجوده رأسمالا للمستقبل، فهذا صحيح في حال وجود القدرة المالية، أمّا في حالة عدم القدرة على تأمين حياة هؤلاء الأولاد فالراي الثّاني هو الاصح لهذا الدليل. المهم أنَّ هذا التصرف الجاهلي يرتبط بعقيدة وهمية تقول: إِنَّ الأب والأُم هما الرازقان، بينما اللّه سبحانهُ وتعالى يقول: اطردوا هذا التفكير الشيطاني مِن أذهانكم وابذلوا سعيكم ووسعكم واللّه يؤمن رزقكم ورزقهم. وفي الوقت الذي نستغرب فيه ارتكاب الجاهليين لهذه الجرائم بحق النوع البشري، فإِنَّ عصرنا الحاضر ـ وفي أكثر مُجتمعاته رُقياً وتقدماً ـ يعيد تكرار هذه الجريمة ولكن بأسلوب آخر، إِذ أنَّ العمليات الواسعة في إِسقاط الجنين وقتله خوفاً مِن الضائقة المالية وازدياد عدد السكان، هي نموذج آخر للقتل، (للمزيد راجع تفسير الآية (151) مِن سورة الإِنعام). إِنَّ تعبير "خشية إِملاق" إِشارة لطيفة إِلى الدافع الوهمي الشيطاني ورفضه، حيثُ يُفيد التعبير أنَّ الوهم ومجرّد الخوف هو الذي يتحكم بهذا السلوك المحرَّم. لا الدوافع الحقيقية. كما يجب الإِنتباه إِلى أنَّ "كان" في (كان خطأً كبيراً) هي فعل ماض، يُفيد هنا التأكيد على أنَّ قتل الأبناء يعتبر مِن الذنوب العظيمة التي كانت معروفة، منذ القدم بين البشر، وأنَّ الفطرة الإِنسانية السليمة تحمل دوافع الرفض وإِلادانة لِمثل هذا السلوك الذي لا يختص بزمان معين دون غيره. ثانياً: الآية التي بعدها تشير إِلى ذنب عظيم آخر هو الزنا (ولا تقربوا الزنا إِنَّهُ كان فاحشة و ساءَ سبيلا) وفي هذا التعبير القرآني تمت الإِشارة إِلى ثلاث نقاط: ألف ـ لم تقل الآية: لا تزنوا، بل قالت: لا تقربوا هذا العمل الشائن، وهذا الأُسلوب في النهي فضلا عمّا يحملهُ مِن تأكيد، فإِنَّهُ يوضح أنَّ هناك مقدمات تجر إِلى الزنا ينبغي تجنبها وعدم مقاربتها، فخيانة العين تعتبر واحدة مِن المقدمات، والسفور والتعري مقدمة أُخرى، الكتب السيئة والأفلام الملوّثة والمجلات الفاسدة ومراكز الفساد كل واحدة مِنها تعتبر مقدمة لِهذا العمل. كذلك فإِنَّ الخلوة بالأجنبية (يعني خلوة المرأة والرجل الأجنبي عليها في مكان واحد ولوحدهما) يعتبر عاملا في إِثارة الشهوة. وأخيراً فإِنَّ امتناع الشباب عن الزواج خاصة مع ملاحظة الصعوبات الموضوعة أمام الطرفين، هي مِن العوامل التي قد تؤدي إِلى الزنا. والآية نهت عن كل ذلك بشكل بليغ مُختصر، ولكنّا نرى في الأحاديث والرّوايات نهياً مُفصلا عن كل واحدة مِن هذه المقدمات. ب ـ إِنَّ جملة (إِنَّه كان فاحشة) بتأكيداتها الثلاثة المستفادة مِن "إِن" والفعل الماضي "كان" وكلمة "فاحشة" تكشف عن فظاعة هذا الذنب. ج ـ إِنَّ جملة (ساء سبيلا) توضح حقيقة أنَّ هذا العمل "الزنا" يؤدي إِلى مفاسد أُخرى في المجتمع. فلسفة تحريم الزنا: يمكن الإِشارة إِلى خمسة عوامل في فلسفة تحريم الزنا، وهي: 1 ـ شياع حالة الفوضى في النظام العائلي، وانقطاع العلاقة بين الأبناء والآباء، هذه الرابطة التي تختص بكونها سبباً للتعارف الإِجتماعي، بل إنّها تكون سبباً لصيانة الأبناء، ووضع أُسس المحبّة الدائمة في مراحل العمر المختلفة، والتي هي ضمانة الحفاظ على الأبناء. إِنَّ العلاقات الإِجتماعية القائمة فى أساس العلاقات العائلية ستتعرض للانهيار والتصدّع إِذا شاع وجود الابناء غير الشرعيين "أبناء الزنا"، وللمرء أن يتصّور مصير الأبناء فيما إِذا كانوا ثمرّة للزنا، ومقدار العناء الذي يتحملونه في حياتهم مِن لحظة الولادة وحتى الكبر. وعلاوة على ذلك، فإِنّهم سيحرمون من الحبّ الأُسري الذي يعتبر عاملا في الحدّ الجريمة من في المجتمع الإِسلامي، وحينئذ يتحول المجمتع الإِنساني بالزنا إِلى مجتمع حيواني تغزوه الجريمة والقساوة من كل جانب. 2 ـ إِنَّ إِشاعة الزنا في جماعة ما، ستقود إلى سلسلة واسعة مِن الإِنحرافات أساسها التصرفات الفردية والإِجتماعية المنحرفة لذوي الشهوات الجامحة. وما ذكر في هذا الصدد من القصص عن الجرائم والإِنحرافات المنبعثة عن مراكز الفحشاء والزنا في المجتمعات يوضح هذه الحقيقة، وهي أنّ الانحرافات الجنسية تقترن عادة بأبشع الوان الجرائم والجنايات. 3 ـ لقد أثبت العلم ودلَّت التجارب على أنَّ إِشاعة الزنا سبب لكثير مِن الأمراض والمآسي الصحية وكل المعطيات تشير إِلى فشل مُكافحة هذه الأمراض مِن دون مُكافحة الزنا أصلا. (يمكن أن تلاحظ موجات مرض الإِيدز في المجتمعات المعاصرة، ونتائجها الصحية والنفسية المدمِّرة). 4 ـ إِنَّ شياع الزنا غالباً ما يؤدي إِلى محاولة إِسقاط الجنين وقطع النسل، لأنَّ مِثل هؤلاء النساء "الزانيات" لا يرضين بتربية الأطفال، وعادة ما يكون الطفل عائقاً كبيراً أمام الإِنطلاق في ممارسة هذه الأعمال المنحرفة، لذلك فهن يُحاولن إِسقاط الجنين وقطع النسل. أمّا النظرية التي تقول، بأنَّ الدولة يمكنها ـ من خلال مؤسسات خاصّة ـ جمع الأولاد غير الشرعيين وتربيتهم والعناية بهم، فإِنَّ التجارب أثبتت فشل هذه المؤسسات في تأدية أهدافها، إِذ هناك صعوبات التربية، وهناك النظرة الإِجتماعية لهؤلاء، ثمّ هناك ضغوطات العزلة والوحدة وفقدان محبّة الوالدين وعطفهما، كل هذه العوامل تؤدي إِلى تحويل هذه الطبقة مِن الأولاد الى قساة وجناة وفاقدي الشخصية. 5 ـ يجب أن لا ننسى أنَّ هدف الزواج ليس إِشباع الغريزة الجنسية وحسب، بل المشاركة في تأسيس الحياة على أساس تحقيق الإِستقرار الفكري والأنس الروحي للزوجين. وأمّا تربية الأبناء والتعامل مع قضايا الحياة، فهي آثار طبيعية للزواج، وكل هذه الأُمور لا يمكن لها أن تثمر مِن دون أن تختص المرأة بالرجل وقطع دابر الزنا وأشكال المشاعية الجنسية. في حديث عن الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) يقول: سمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: "في الزنا ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأمّا اللاتي في الدنيا، فيذهب بنور الوجه، ويقطع الرزق، ويسرع الفناء. وأمّا اللّواتي في الآخرة، فغضب الرب، وسوء الحساب، والدخول في النّار، أو الخلود في النّار"(1). ثالثاً: الحكم الآخر الذي تشير إِليه الآية التي بعدها، هو احترام دماء البشر، وتحريم قتل النفس حيث تقول: (ولا تقتلوا النفس التي حرّم اللّه إِلاّ بالحق). إِنَّ احترام دماء البشر وحرمة قتل النفس تعتبر من المسائل المتفق عليها في كل الشرائع السماوية وقوانين البشر، فقتل النفس المحترمة لدى الجميع مِن الذنوب الكبيرة، إِلاَّ أنَّ الإِسلام أعطى أهمية إِستثنائية لهذه المسألة بحيث اعتبر مَن يقتل إِنساناً فكأنّما قتل الناس جميعاً، كما في الآية (32) مِن سورة المائدة (مَن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً). بل نستفيد مِن بعض الآيات القرآنية أنَّ جزاء قتل النفس بغير حق هو الخلود في النّار، وأنَّ هؤلاء الذين يتورطون في دم الأبرياء يخرجون عن ربقة الإِيمان، ولا يمكن أن يخرجوا مِن هذه الدنيا مؤمنين: (وَمَن قتل مؤمناً مُتعمداً فجزاؤه جهنَّم خالداً فيها)(2). وحتى في الإِسلام فإِنَّ الذين يشهرون السلاح بوجه الناس ينطبق عليهم عنوان "محارب" وهذا الصنف لهُ عقوبات شديدة مُفصّلة في المصنفات الفقهية، وقد أشرنا إِلى بعضها أثناء الحديث عن الآية (33) من سورة المائدة. إِنَّ الإِسلام يُحاسب على أقل أذى ممكن أن يلحقهُ الإِنسان بالآخرين، فكيف بقضية القتل وإِراقة الدماء؟! وهنا نستطيع أن نقول ـ باطمئنان ـ : إِننا لا نرى أيَّ شريعة غير الإِسلام أعطت هذه الحرمة الإِستثنائية لدم الإِنسان، بالطبع هناك حالات ينتفي معها احترام دم الإِنسان، كما لو قام بالقتل أو ما يوجب إِنزال العقوبة به، لذلك فإِنَّ الآية بعد أن تُثبت حرمة الدم كأصل، تشير للإِستثناء بالقول: (إِلا بالحق). وفي حديث معروف عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ: "لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إِله إِلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه إِلاّ بإِحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المُحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة"(3). أمّا القاتل فتكون نهايتهُ معلومة بالقصاص، الذي يُؤمّن استمرار الحياة واستقرارها، وإِذا لم يعط الحق لأولياء دم المقتول بالقصاص مِن القاتل، فإِنَّ القتلة سيتجرؤون على المزيد من القتل والإِخلال بالأمن الإِجتماعي. أمّا الزاني المحصن، فإنّ قتله في قبال واحد من أعظم الذنون قباحة، وهو يساوى سفك الدم الحرام في المرتبة. أمَّا قتل المرتد فيمنع الفوضى والإِخلال في المجتمع الإِسلامي، وهذا الحكم ـ كما أشرنا سابقاً ـ هو حكم سياسي، لأجل حفظ النظام الإِجتماعي في قبال الأخطار التي تهدِّد كيان النظام الإِسلامي ووحدة أمنه الإِجتماعي، والإِسلام ـ عادةً ـ لا يفرض على أحد قبول الإِنتماء إِليه، ولكن إِذا اقتنع أحد بالإِسلام واعتنقهُ، وأصبح جزاءاً من المجتمع الإِسلامي، واطلع على أسرار المسلمين، ثمّ أراد بعد ذلك الإِرتداد عن الإِسلام ممّا يؤدي عملا الى تضعيف وضرب قواعد المجتمع الإِسلامي، فإِن حكمه سيكون القتل(4) بالشرائط المذكورة في الكتب الفقهية. إِنَّ حرمة دم الإِنسان في الإِسلام لا تختص بالمسلمين وحسب، بل تشمل غير المسلمين أيضاً مِن غير المحاربين، والذين يعيشون مع المسلمين عيشة مُسالمة، فإِنَّ دماءهم ـ أيضاً ـ وأعراضهم وأرواحهم مصونة ويحرم التجاوز عليها. تشير الآية بعد ذلك إلى إثبات حق القصاص بالمثل لولي القتيل فتقول: (ومَن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً). ولكن في نفس الوقت ينبغي لولي المقتول أن يلتزم حد الإِعتدال ولا يسرف (فلا يسرف في القتل إِنَّهُ كانَ منصوراً)إِذ ما دام ولي الدم يتحرك في الحدود الشرعية فإنّه سيكون مورداً لنصرة اللّه تعالى. والنهي عن الإِسراف تشير إلى واقع كان سائداً في الجاهلية، واليوم أيضاً يُمكن مُشاهدة نماذج لها، فحين يُقتل فرد مِن قبيلة معينة، فإِنّها تقوم بهدر الكثير مِن الدماء البريئة من قبيلة القاتل. أو أن يقوم أولياء الدم بقتل أناس أبرياء أو الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. كأن يكون المقتول شخصاً معروفاً وذا منزلة إِجتماعية، فإِنَّ أهله وفق الأعراف الجاهلية، سوف لن يكتفوا بحدّ القصاص الشرعي، بل يقتلون فرداً معروفاً ومكافئاً في منزلته الإِجتماعية للمقتول من قبيلة القاتل حتى وإِن لم يكن له أي دور في عملية القتل.(5) وعصرنا الحاضر، شهد مِن التجاوز في الإِسراف وهدر دِماء الأبرياء ما غسل معه عار أهل الجاهلية، فهذه إِسرائيل اليوم تقوم بحجة قتل أحد جنودها بإِلقاء القنابل والصواريخ على رؤوس النساء والأطفال الفلسطنيين الأبرياء، وتعمد إِلى هدم ديارهم. كذلك شهدت سنوات الحرب الظالمة التي شنّها النظام البعثي على الجمهورية الإِسلامية أسواء أنواع العدوان على دماء الأبرياء والإِسراف في القتل. إِنَّ رعاية العدالة ـ حتى في عقاب القاتل ـ تعتبر مهمّة إِسلامياً، لذلك نقرأ في وصية الإِمام علي(عليه السلام)، بعد أن اغتاله عبدالرحمن بن ملجم المرادي قوله: "يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إِلاّ قاتلي، انظروا إِذا أنا مت مِن ضربته هذه، فاضربوه، ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل"(6). رابعاً: الآية التي بعدها تشير الى حفظ مال اليتيم، والملاحظ أنَّ الآية استخدمت نفس أُسلوب الآية التي سبقتها، فلم تقل: لا تأكلوا مال اليتيم وحسب، وإِنّما قالت: (ولا تقربوا مال اليتيم). وفي هذا التعبير تأكيد على حرمة مال اليتيم. ولكن قد تكون هذه الآية حجة لبعض الجهلاء الذين سيتركون مال اليتامي يُهدر ويكون عرضة للحوادث بدون أن يكون عليه قيّم، لذلك استثنت بقوله: (إِلاّ بالتي هي أحسن). وبناء على هذا الإِستثناء يمكن التصرف بأموال اليتامى بشرط حفظ هذه الأموال، وتنميتها وتكثيرها. وهذا الوضع يستمر الى أن يبلغ اليتيم سنّ الرشد ويستطيع فكرياً واقتصادياً أن يكون قيماً على نفسه وأمواله (حتى يبلغ أشدّه). "أشدّ" مأخوذة مِن "شدّ" على وزن "جدّ" وهي بمعنى "العقدة المحكمة" ثمّ توسع المعنى فيما بعد ليشمل أي نوع مِن القوة الروحية والجسمية. والمقصود من كلمة "أشد" في الآية هو الوصول إلى مرحلة البلوغ. ولكن ليس البلوغ الجسمي وحسب، وإِنّما الرشد الفكري والقدرة الإِقتصادية التي تؤهل اليتيم لأن يحفظ أمواله. اختيار كلمة "أشد" في الآية هو لتحقيق كل هذه المعاني مجتمعة، والتي يمكن اختيارها بالتجربة. الأيتام ظاهرة طبيعية في أي مجتمع، ووجودهم يكون تبعاً لحوادث مختلفة يمر بها المجتمع، والدوافع الإِنسانية تفرض رعاية هؤلاء اليتامى من قبل الخيّرين والمحسنين في المجتمع، والإِسلام يحث على رعاية الأيتام، وقد تحدثنا عن هذا الأمر مُفصلا في الآية (2) مِن سورة النساء. والشيء الذي نريد أن نضيفهُ هنا هو أن بعض الرّوايات والأحاديث الإِسلامية وسّعت في مفهوم اليتيم ليشمل الأفراد الذين انقطعوا عن إِمامهم وقائدهم، ولا يصل صوت الحق إِليهم. وهذا المعنى نوع مِن التوسع في المفهوم واستفادة معنوية مِن حكم مادي. خامساً: تشير الآية بعد ذلك إِلى الوفاء بالعهد فتقول: (وأوفوا بالعهد إِنَّ العهد كان مسؤولا). إِنَّ الكثير مِن العلاقات الإِجتماعية وخطوط النظام الإِقتصادي والمسائل السياسية قائمة على محور العهود، بحيث إِذا ضعف هذا المحور وانهارت الثقة بين الناس، فسينهار النظام الإِجتماعي وستحل الفوضى، ولهذا السبب تؤكّد الآيات القرآنية ـ بقوّة ـ على قضية الوفاء بالعهود. "العهد" لهُ معان واسعة، فهو يشمل العهود والمواثيق الخاصة بين الأفراد في القضايا الإِقتصادية والمعاشية، وفي العمل والزواج، وهو يشمل أيضاً المواثيق والمعاهدات بين الحكومات والشعوب، وفوق ذلك فإِنَّ العهد يشير الى ميثاق الأُمم مع اللّه ورسوله وكتبه، وكذلك العكس، أي التزام هؤلاء بالعهد أمام الناس(7). سادساً: آخر حكم من الأحكام الستة، يتصل بالعدل في الوزن والكيل ورعاية حقوق الناس في ذلك ومحاربة التطفيف في الميزان حيثُ تقول الآية الكريمة: (وأوفوا الكيل إِذا كلتم، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ذلك خير وأحسن تأويلا). * * * ملاحظات 1 ـ أضرار التطفيف في الكيل: أوّل ملاحظة ينبغي الإِنتباه إِليها هنا، هي أنَّ القرآن الكريم أكدّ مِراراً على ضرورة الوزن للناس بالقسطاس، وحذَّر مِن البخس والتطفيف في الميزان حتى أنَّهُ اعتبر ذلك في موضع، مُرادفاً لنظام الخلق في عالم الوجود، حيثُ نقرأ في الآيتين (7، 8) مِن سورة الرحمن، قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان، أن لا تطغوا في الميزان). والآية تشير إِلى أنَّ مسألة بخس الناس والتطفيف في الميزان ليست مسألة صغيرة، بل هي كبيرة وتدخل في صميم أصول العدالة والنظام المهيمن على عالم الوجود برمته. في مكان آخر، وبأُسلوب أكثر قوّة، يهدِّد القرآن المطففين، بقوله، كما في سورة المطففين (1 ـ 4): (ويلَ للمطففين الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإِذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون، ألا يظن أُولئك أنّهم مبعوثون ليوم عظيم). بعض الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن كانوا يُحاربون التطفيف بعد الشرك مُباشرة، كما حصل لشعيب مع قومه; ولمّا لم يلتفتوا إلى تعليمات نبيّهم نالهم العذاب الأليم. (تراجع القصة في نهاية آية 85 مِن سوره آل عمران). وعادةً، فإِنَّ الحق والعدل والنظام والحساب، كل هذه الأُمور تعتبر أصولا أساسية للحياة، بل وتدخل في نظام الوجود والخلق، لذلك فابتعاد الناس عن هذا الأصل ـ خصوصاً بالنسبة لبخس الكيل والتطفيف في الميزان ـ يؤدي إِلى إِنزال ضربة شديدة بالثقة التي تعتبر جوهر استقرار التعامل الإِقتصادي بين الناس. ومع الأسف فإِنّنا نرى ـ في بعض الأحيان ـ أنَّ غير المسلمين، ولأغراض كسب الثقة بأنفسهم وتجارتهم، يلتزمون بشكل دقيق بالمواصفات والأرقام المُتفق عليها، بينما يتجاوز بعض المسلمين هذه الحدود! وهذه إِشارة على أنَّ طريق الدنيا أيضاً يمر من خلال عدم الخيانة والغش. وينبغي أن يلاحظ هنا أنَّ هؤلاء الذين يَخلّون بالميزان ويطففون الكيل مسؤولون أمام المُشتري مسؤولية حقوقية، لذلك فإِنَّ توبتهم لا تتم إِلاّ برد الحقوق المغصوبة إلى أهلها، وإِذا تعذَّر عليهم ذلك، فينبغي لهم إِعطاء ما يساويها إِلى الفقراء والمحتاجين بعنوان رد مظالم عن الأصحاب الحقيقيين. 2 ـ ما هو حكم التطفيف وبخس الكيل؟ الجدير بالملاحظة أن حكم التطفيف وبخس الكيل، قد يعمَّم بحيث يشمل كل أشكال التقصير المتعمد في الأعمال والوظائف المختلفة، فمن التطفيف مَن لا ينجِز عمله كاملا، والمعلم الذي لا يدرِّس بشكل جيد، والموظف الذي لا يلتزم بأوقات عمله وهو غير حريص عليه. ولكن الألفاظ المستخدمة في هذه الآيه لا تفيد معنى هذا التعميم، فهي من التوسعة العقلية إِلاّ أنَّ قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان) يشير إِلى هذا التعميم. 3 ـ ما هو معنى "قسطاس"؟ "قِسطاس" بكسر القاف أو ضمها على وزن "مِقياس" وأحياناً تقاس على وزن "قُرآن" بمعنى "الميزان" والبعض يعتبرها كلمة رومية، بينما البعض يرى بأنّها كلمة عربية. وهناك مَن يقول بأنّها مركبة مِن كلمتين هما "قسط" بمعنى العدل و"طاس" بمعنى كفة الميزان. أمّا البعض الآخر فيقول بأنَّ كلمة "قسطاس" تطلق على الميزان الكبير، بينما كلمة "ميزان" تطلق على الموازين الصغيرة(8). وفي كل الأحوال، فإِنَّ (القسطاس المستقيم) تعني الميزان الصحيح والسالم والعادل بدون نقيصة أو زيادة. والطريف هو أنَّ هناك رواية عن الإِمام الباقر(عليه السلام)، تفسر هذه الكلمة بقوله: "هو الميزان الذي له لسان"(9). وذلك لأنّه مع عدم وجود اللسان لا يستطيع الميزان أن يوضح حركة الكفتين بشكل دقيق، أمّا مع وجوده فإِنَّ أقل حركة للكفتين تنعكس على اللسان، وبهذا الشكل يُمكن رعاية العدل كاملا. * * * ــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ تفسير مجمع البيان، ج 6، ص 414. 2 ـ النساء، 93. 3 ـ صحيح البخاري ومسلم نقلا عن تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 323. 4 ـ هناك بحث مفصل في نهاية الآية (106) من سورة النحل، من التّفسير الأمثل حول الإرتداد، وفلسفة العقوبات الشديدة للمرتد. 5 ـ يراجع تفسير الآلوسي (روح المعاني) أثناء حديثه عن هذه الآية. 6 ـ نهج البلاغة، مجموعة الرسائل، الرقم (47). 7 ـ بالنسبة لأهمية الوفاء بالعهد والقسم لدينا بحث مفصل حول الموضوع يمكن مراجعته في بحث الآيات 91 ـ 94 مِن سورة النحل. 8 ـ تلاحظ تفاسير الميزان، والفخر الرازي، ومجمع البيان في تفسير الآية مورد البحث. 9 ـ يراجع تفسير الصافي، أثناء تفسير هذه الآية.