[536] تقول الآية الاُولى: (وقد مكروا مكرهم). لقد عملوا كلّ ما بوسعهم من أجل طمس حقائق الإسلام، بدءً من الترغيب والتهديد وحتّى الأذى ومحاولات القتل والإغتيال وبثّ الشائعات، ومع كلّ ذلك فانّ الله مطّلع على جميع مؤامراتهم وقد أحصى أعمالهم: (وعند الله مكرهم)وعلى أي حال فلا تقلق فانّهم لا يستطيعون بمكرهم هذا أن يصيبوك بسوء حتّى (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال). "المكر" ـ وكما أشرنا إليه سابقاً ـ بمعنى الإحتيال، فمرّةً يلازمه الفساد ومرّةً أُخرى لا يلازمه، وفي تفسير جملة (وعند الله مكرهم) رأيان: يقول البعض ومن جملتهم العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان: المراد بكون مكرهم عند الله إحاطته تعالى به بعلمه وقدرته. ويقول البعض الآخر، كالعلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: إنّ المراد هو ثبوت جزاء مكرهم عند الله تعالى (وعلى هذا التّفسير يكون تقدير الآية: عند الله جزاء مكرهم) فكلمة الجزاء محذوفة. وممّا لا شكّ فيه أنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى الصحّة، لأنّه يوافق ظاهر الآية ولا يحتاج إلى الحذف والتقدير، وتؤيّده جملة (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) أي إنّ مكرهم مهما كان قويّاً. ومهما كانت لديهم قدرة على المؤامرة، فانّ الله أعلم بهم وأقدر عليهم وسيدمّر كلّ ما مكروا. ثمّ يتوعّد الله الظالمين والمسيئين مرّة أُخرى من خلال مخاطبة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله) لأنّ الإخلاف يصدر من الذي ليست له قدرة وإستطاعة، ولكن: (إنّ الله عزيز ذو إنتقام). وهذه الآية ـ في الواقع ـ مكمّلة للآية التي قبلها (ولا تحسبنّ الله غافلا عمّا يعمل الظالمون). وتعني أنّ المهلة التي أعطيت للظالمين ليست بسبب أنّ الله غافل عنهم وعن أعمالهم ولا مخلف لوعده، بل سينتقم منهم في اليوم المعلوم. والإنتقام لا يراد به ما كان مصحوباً بالحقد والثأر كما يستخدم عادة في أعمال البشر، بل هو الجزاء والعقاب وإقامة العدالة بحقّ الظالمين، بل إنّها نتيجة عمل الإنسان نفسه، ولا حاجة إلى القول بأنّ الله تعالى لو لم ينتقم من الظالمين لكان ذلك خلافاً لعدله وحكمته. ثمّ يضيف تعالى (يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات) وسوف يتجدّد كلّ شيء بعد الدمار، ويبعث الإنسان في خلق جديد وعالم جديد يختلف في كلّ شيء عن هذا العالم، في سعته، في نعيمه وعقابه وسيظهر الإنسان بكلّ وجوده لله تعالى: (وبرزوا لله الواحد القهّار). و "البروز" من مادّة "البراز" على وزن "فراز" بمعنى الفضاء والمحلّ الواسع، وغالباً ما تأتي بمعنى الظهور، لأنّ وجود الشيء في الفضاء الواسع بمعنى ظهوره، وهناك آراء مختلفة للمفسرين في معنى بروز الناس لله تعالى، الكثير يرى أنّها تعني الخروج من القبر. ويحتمل أن يكون المعنى إنكشاف بواطن وظواهر جميع الناس في يوم المحشر، كما نقرأ في الآية (16) من سورة غافر (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء) وكذلك الآية (9) من سورة الطارق (يوم تبلى السرائر) وعلى أي حال فوصفه بالقهّار دليل على تسلطه على كلّ الأشياء وسيطرته على ظاهرها وباطنها. وهنا يأتي هذا السؤال، وهو: هل أنّ شيئاً خفي على الله في هذه الدنيا لكي يظهر في الآخرة؟ أم أنّ الله لا يعلم بما في القبور ولا يعلم بأسرار الناس؟ ويتّضح الجواب من الإلتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ لنا ظاهراً وباطناً في هذه الدنيا، وقد يشتبه على البعض ـ بسبب علمنا المحدود ـ أنّ الله لا يرى باطننا، ولكن سوف يظهر كلّ شيء في الآخرة ولا وجود للظاهر والباطن هناك، وبعبارة أُخرى فالظهور بالقياس إلى علمنا وليس إلى علم الله المطلق. وتصوّر الآية التالية كيفيّة بروزهم إلى الله فنقول: (وترى المجرمين يومئذ مقرّنين في الأصفاد). "الأصفاد" جمع "صفد" بمعنى الغلّ، وقال البعض هو الغلّ والسلاسل التي تجمع اليد إلى العنق. "مقرنين" من مادّة "القرن والإقتران" وهي بنفس المعنى، لكن لو إستخدمت من باب التفعيل يستفاد منها التكثير، وعلى ذلك فكلمة مقرّنين بمعنى الأشخاص المتقاربين مع بعضهم البعض. وللمفسّرين ثلاث آراء حول المقصود من هذه الكلمة: الأوّل: هو تقييد المجرمين بالسلاسل والأغلال بعضهم مع البعض الآخر وظهورهم بهذه الصورة في يوم القيامة، إنّ هذا الغِل هو عبارة عن تجسيد للروابط العملية والفكرية بين المجرمين في هذه الدنيا، حيث كان يساعد بعضهم البعض على الظلم والفساد، وتتجسّد هذه العلاقة في الآخرة بصورة سلاسل تربطهم فيما بينهم. الثّاني: إنّ المجرمين يقرّنون مع الشياطين بالسلاسل في يوم القيامة بسبب علاقتهم الباطنية معهم في هذه الدنيا. الثّالث: أن تقيّد أيديهم برقابهم في الآخرة. ولا مانع هناك من أن تجمع هذه الصفات للمجرمين، لكن المعنى الأوّل الذي ذكرناه يوافق ظاهر الآية. ثمّ يتطرّق القرآن الكريم إلى لباسهم والذي هو أحد أفراد المجازاة الشديدة (سرابيلهم من قطران وتغش وجوههم النار). "سرابيل" جمع (سربال) على وزن (مثقال) بمعنى القميص من أي قماش كان، ويقول البعض بأنّه كلّ أنواع اللباس، لكن الأوّل أقرب إلى المعنى. "قطران" بفتح القاف وسكون الطاء أو بكسر القاف وسكون الطاء، وهي مادّةً تؤخذ من شجرة الأبهل ثمّ تُغلى فتثخن وتُطلى بها الإبل عند إصابتها بمرض الجرب، وكانوا يعتقدون أنّ المرض يزول بسبب وجود الحرقة في هذه المادّة، وعلى أي حال فهي مادّة سوداء نتنة وقابلة للإشتغال(1). فيكون معنى الجملة (سرابيلهم من قطران) أنّهم يلبسون ثياباً من مادّة سوداء ونتنة وقابلة للإشتعال، حيث تمثّل أسوأ الألبسة لما كانوا يعملونه في هذه الدنيا من إرتكاب الذنوب والفواحش. وسوادها يشير إلى أنّ الذنوب تؤدّي إلى أن يكون الإنسان مسودّ الوجه أمام ربّه، وتعفّنها يشير إلى تلوّث المجتمع بهم ومساعدتهم على إشعال نار الفساد، وكأنّ القطران تجسيد لأعمالهم في الدنيا. (وتغشى وجوههم النار) بسبب لباسهم الذي هو من قطران، لأنّه عند إشتعاله لا يحرق جسمهم فقط، بل يصل لهيبه إلى وجوههم. كلّ ذلك لأجل (ليجزي الله كلّ نفس ما كسبت). ومن الطريف أنّه لم يقل أنّ الجزاء بما كسبت أنفسهم، بل يقول: "ما كسبت" ليكون تجسيداً حيّاً لأعمالهم، وهذه الآية بهذا التعبير الخاص دليل آخر على تجسّم الأشياء. وفي الختام يقول تعالى: (إنّ الله سريع الحساب) وهذا واضح تماماً لأنّ كلّ إنسان حسابه معه! ونقرأ في بعض الرّوايات : إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر. ولا ريب أنّ الله تعالى لا يحتاج إلى وقت لمحاسبة الأفراد، وما جاء في الرّواية أعلاه إشارة إلى أقصر الفترات. (للتوضيح أكثر راجع تفسير الآية 202 من سورة البقرة من تفسيرنا هذا). وبما أنّ آيات هذه السورة ـ وكذلك جميع الآيات ـ لها جانب الدعوة إلى التوحيد وإبلاغ الأحكام الإلهيّة إلى الناس وإنذارهم، يقول تعالى في آخر آية من هذه السورة: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا إنّما هو إله واحد وليذكّر اُولوا الألباب). * * * بحوث 1 ـ تبديل الأرض غير الأرض والسماوات قرأنا في الآيات أعلاه أنّ في يوم القيامة تبدّل الأرض غير هذه الأرض وكذلك السّماوات، فهل التبديل تبديل ذاتي، أي أن تفنى هذه الأرض وتُخلق مكانها أرض أُخرى للقيامة؟ أم المقصود هو تبديل الصفات، يعني دمار ما في الأرض والسّماوات وخلق أرض وسماوات جديدة على أنقاضها؟ حيث تكون النسبة بينهما أنّ الثانية أكمل من الأُولى. الظاهر في كثير من الآيات القرآنية أنّها تشير إلى المعنى الثاني، ففي الآية (21) من سورة الفجر يقول تعالى: (كلاّ إذا دكّت الأرض دكّاً دكّاً) وفي الآية الأُولى من سورة الزلزال يقول تعالى: (إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها)وفي الآية (15) من سورة الحاقة (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكّة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة) وقوله تعالى: (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً ـ لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ـ يومئذ يتّبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاّ همساً)،(2) وقوله تعالى: (إذا الشمس كُوّرت وإذا النّجوم إنكدرت وإذا الجبال سيّرت) وقوله تعالى في سورة الإنفطار (إذا السّماء إنفطرت وإذا الكواكب إنتثرت وإذا البحار فجّرت وإذا القبور بُعثرت). يستفاد من مجموع هذه الآيات والآيات الأُخرى التي تتحدّث عن بعث الناس من القبور، أنّ النظام الحالي للعالم لا يبقى بهذه الصورة التي هو عليها، ولا يفنى فناءً تامّاً، بل تتغيّر صورة العالم وتعود الأرض مسطّحة مستوية ويبعث الناس في أرض جديدة (بالطبع تكون الأرض أكثر كمالا لأنّ الآخرة كلّ ما فيها أوسع وأكمل). ومن الطبيعي أنّ عالمنا اليوم ليس له الإستعداد لتقبّل مشاهد الآخرة، وهو محدود المجال بالنسبة لحياتنا الاُخروية وكما قلنا مراراً: إنّ نسبة عالم الآخرة إلى عالم الدنيا كنسبة عالم الجنين في الرحم إلى الدنيا. والآيات التي تقول: (يوم كان مقداره ألف سنة ممّا تعدّون) دليل واضح على هذه الحقيقة. من الطبيعي أنّنا لا نستطيع أن نصوّر الآخرة وخصائصها بشكل دقيق ـ كما هو حال الجنين في بطن اُمّه لو إفترضنا أنّ له عقلا كاملا، فإنّه لا يستطيع أن يتصوّر عالم الدنيا ـ إلاّ أنّنا نعلم أنّه سوف يحدث تغيير عظيم لهذا العالم، حيث يتمّ تدميره وتبديله بعالم جديد، ومن الطريف ما ورد في الرّوايات من أنّ الأرض تبدّل بخبزة نقيّة بيضاء يأكل الناس منها حتّى يفرغ من الحساب. وقد وردت هذه الرّوايات بطرق مختلفة في تفسير نور الثقلين، وأشار إليها القرطبي في تفسيره كذلك. وليس من المستبعد أن يكون المقصود من هذه الرّوايات أنّ الأرض سوف تغطّيها مادّة غذائية يمكن للإنسان أن يستعملها بسهولة، ووصفها بالخبز لأنّه الأكثر احتواءً لهذه المادّة الغذائية. 2 ـ بداية وختام سورة إبراهيم وكما رأينا فإنّ سورة إبراهيم ابتدأت في بيان دور القرآن الكريم في إخراج الناس من الظّلمات إلى نور العلم والتوحيد، وإنتهت في بيان دور القرآن في إنذار الناس وتعليمهم التوحيد. إنّ هذه البداية والنهاية تبيّن هذه الحقيقة، وهو أنّ كلّ ما نحتاجه موجود في هذا القرآن، حيث يقول الإمام علي (عليه السلام): "فيه ربيع القلوب وينابيع العلم، فاستشفوه من أدوائكم" وهذا البيان دليل على خلاف ما يراه بعض المسلمين من أنّ القرآن الكريم كتاب مقدّس يقتصر وجوده في ترتّب الثواب لقارئه. بل هو كتاب شامل لجميع مراحل الحياة الإنسانية. كتاب رشد وهداية ودستور للعمل، فهو يذكّر العالِم ويستلهم منه عموم الناس. إنّ مثل هذا الكتاب يجب أن يأخذ موقعه في قلوب المسلمين، ويشكّل قانوناً ونظاماً أساسياً في حياتهم، ويجب عليهم أن يطالعوه ويبحثوا مضامينه بدقّة في تطبيقاتهم العمليّة. إنّ هجران القرآن الكريم وإتّخاذ المبادىء المنحرفة الشرقيّة منها والغربية، أحد العوامل المهمّة في تأخّر المسلمين. وما أروع ما قاله الإمام علي (عليه السلام) "واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى".(3) وما أشدّ مصيبتنا في غربتنا عن القرآن، ومعرفة الغرباء به! ومن المؤلم أن تكون وسيلة السعادة في دارنا ونحن نبحث عنها في دور الناس! وما أعظم المصاب حين نكون إلى جانب نبع ماء الحياة، عطاشى، ظمأى، أو نهرول في الصحاري حفاة وراء السراب! اللهمّ ارزقنا العقل والهداية والإيمان حتّى لا نفقد وسيلة السعادة هذه، التي هي من ثمار دماء الشهداء في سبيلك! وألطف علينا بالجدّ حتّى نعلم ضالّتنا في هذا الكتاب العظيم ولا نمدّ أيدينا إلى الآخرين. 3 ـ التوحيد هو البداية والنهاية الفائدة الأُخرى التي علّمتنا إيّاها الآية أعلاه، هي التأكيد على التوحيد بعنوان الحديث الأخير، وعلى اُولي الألباب بعنوان التذكّر الأخير. نعم، فالتوحيد أعمق أصل إسلامي حيث تنتهي إليه جميع خطوط التربية والتعليم في الإسلام، ويجب أن نبتدىء به وننتهي إليه لأنّه العمود الفقري للإسلام. وليس توحيد الله في العبادة فقط، بل التوحيد في الهدف، والتوحيد في صفوف القتال، والتوحيد في البرامج العملية والتنفيذيّة، فكلّها توضّح الأركان الأصليّة للدين، وسبب وجود المشاكل الكثيرة في مجتمعاتنا الإسلامية هو حذف التوحيد من واقعنا العملي. ومع الأسف الشديد نلاحظ أنّ الدول العربية والتي هي مهد الإسلام قد إقترنت برامجها وأهدافها بالشرك والقومية وتكالبت خلف أمجاد العروبة وعظمة العرب وأمثال ذلك من الأهداف والغايات الوهميّة، وإتّخذت الدول الأُخرى لها أصناماً من هذا القبيل، وبذلك قطعوا أواصر التوحيد الإسلامي التي كانت تربط في ما مضى شرق العالم وغربه، وتغرّبوا عن مبادئهم السّماوية إلى درجة أنّ الحرب والإقتتال فيما بينهم أكثر وأشدّ من حربهم مع أعدائهم!! حياة النّبي إبراهيم (عليه السلام) مع أنّ سورة إبراهيم هي السورة الوحيدة في القرآن سمّيت بهذا الاسم، رأينا من المناسب أن نفهرس حياة هذا الرجل العظيم ومحطّم الأصنام في نهايتها ـ مع العلم أنّها لا تذكر حالات إبراهيم الأُخرى التي وردت في آيات أُخرى من القرآن ـ لكي يكون القارىء العزيز على علم كاف بحياة هذا الرجل العظيم التي تذكرها الآيات الأُخرى إن شاء تعالى. ونستطيع أن نقسّم مراحل حياته الشريفة إلى ثلاث فترات: 1 ـ فترة ما قبل النبوّة. 2 ـ فترة نبوّته ومحاربته للأصنام في بابل. 3 ـ فترة الهجرة من بابل وتجواله في أرض مصر وفلسطين ومكّة. ولادته وطفولته ولد إبراهيم (عليه السلام) في أرض "بابل" التي كانت من بلدان العالم المهمّة، وتحكّمها حكومة قويّة وجائرة، وفتح عينيه على العالم في الوقت الذي كان نمرود بن كنعان الملك الجبّار الظالم يحكم أرض بابل ويعتبر نفسه الربّ الأعلى(4). بالطبع لم يكن للناس في ذلك الوقت هذا الصنم فقط، بل كانت لهم أصنام مختلفة يعبدونها ويتقرّبون إليها. والدولة في ذلك الوقت كانت تدافع بقوّة عن الأصنام، لأنّها الوسيلة المؤثّرة في تخدير وتسخيف المجتمع، بحيث لو صدرت أي إهانة من أحد تجاهها يعتبرونها خيانة عظمى. وقد نقل المؤرخّون قصّة عجيبة حول ولادة إبراهيم (عليه السلام) وخلاصتها هي: توقّع المنجّمون أنّه سوف يولد شخص ويحارب نمرود بكلّ قوّة، ولذلك فقد سعى جاهداً لأن يوقف ولادة هذا الشخص أو أن يقتله حين ولادته، إلاّ أنّه لم يتمكّن من ذلك وولد المولود. وإستطاعت اُمّه أن تحفظه عبر تربيته في زوايا الغار القريب من مولده، بالشكل الذي أمضى ثلاثة عشر عاماً هناك. وفي النهاية وبعد أن ترعرع في مخفاه بعيداً عن أنظار شرطة نمرود، ووصل إلى سنّ الشباب، صمّم على الخروج منه والنّزول إلى المجتمع ليشرح لهم دروس التوحيد التي إستلهمها من دخيلة نفسه وتأمّلاته الفكرية. محاربته للمجاميع المختلفة من الوثنيين وفي هذه الأثناء التي كان يعبد فيها شعب بابل ـ بالإضافة إلى الأصنام ـ الموجودات السّماوية كالشمس والقمر والنّجوم، صمّم إبراهيم (عليه السلام) على أن يوقظ وجدانهم عن طريق المنطق والأدلّة الواضحة، ويزيل عن فطرتهم النقيّة ستار الظّلمات حتّى يشعّ في نفوسهم نور الفطرة ويسلكوا في طريق التوحيد. وكان يتفكّر في خلق السّماوات والأرض حتّى شعّ نور اليقين في قلبه ]75 ـ الأنعام [. الجهاد المنطقي مع الوثنيين واجه إبراهيم أوّلا عبّاد النّجوم ووقف مع مجموعة ممّن يعبدون الزهرة، التي تظهر بعد غروب الشمس مباشرةً، حيث كانوا منشغلين في عبادتها، نادى إبراهيم ـ إمّا من باب الإستفهام الإنكاري، أو من باب التنسيق مع الطرف المقابل بعنوان المقدّمة، لإثبات إشتباههم ـ (هذا ربّي) وحينما أفل قال (إنّي لا أحبّ الآفلين). (فلمّا رأى القمر بازغاً) وبدأ عبدة القمر مراسم دعائهم (قال هذا ربّي)؟ فلمّا أفل قال: (لئن لم يهدني ربّي لأكونن من القوم الضالّين). (فلمّا رأى الشمس بازغةً) وقد نشرت أشعّتها الذهبية على السهول الخضراء، وبدأ عبّاد الشمس تضرّعهم وعبادتهم لها قال إبراهيم (هذا ربّي هذا أكبر فلمّا أفلت قال ياقوم إنّي بريءٌ ممّا تشركون)(5). إنّ هذه الآلهة دائمة الاُفول والغروب، فلا اختيار لها إطلاقاً، بل هي أسيرة القوانين الطبيعية فكيف تكون خالقه للكون؟ وأنهى (عليه السلام) هذه الفترة مع الوثنيين على أفضل صورة وإستطاع أن يوقظ جماعة منهم ويجعل مجموعة أُخرى تشكّ في عقيدتها. ولم يمض وقت طويل حتّى شاع صيتهُ .. هذا الشاب الذي أنار قلوب الناس بمنطقه وبيانه البليغين! الحديث مع آزر وفي مرحلة أُخرى بدأ حديثه مع عمّه آزر بعبارات محكمة جدّاً وواضحة مقترنة بالمحبّة، وأحياناً يوبّخه وينذره من مغبّة عبادة الأصنام ويقول له: لماذا تعبد شيئاً لا يسمع ولا يرى ولا يغني عنك شيئاً؟ (فاتّبعني أهدك صراطاً سويّاً، إنّي أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليّاً) إلاّ أنّ عمّه لم يستجب له وهدّده بالرجم إذا لم يرجع عن مساره هذا، لكن إبراهيم بقلبه الواسع قال: (سلامٌ عليك سأستغفر لك ربّي) 47 ـ مريم. نبوّة إبراهيم (عليه السلام) ليس عندنا دليل واضح على عمر إبراهيم (عليه السلام) حينما تقلّد مقام النبوّة، ولكن نستفيد من الآيات في سورة مريم، أنّه أثناء محاورته لعمّه كان من الأنبياء، حيث يقول تعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنّه كان صدّيقاً نبيّاً إذ قال لأبيه ياأبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً). ونعلم أنّ هذه الحادثة كانت قبل إلقائه في النار، وإذا ما أخذنا بنظر الإعتبار ما قاله بعض المؤرخّين من أنّ عمره أثناء القائه في النّار كان 16 عاماً سوف يثبت لدينا أنّه تحمّل أعباء الرسالة منذ صباه. الجهاد العملي مع الوثنيين على أي حال إزداد صدامه مع الوثنيين يوماً بعد يوم حتّى إنتهى إلى قيامه بكسر الأصنام في معبد بابل (إلاّ كبيرهم) بالإستفادة من الفرصة الملائمة! الحديث مع الحاكم المتجبّر! لقد وصلت هذه الأحداث إلى أسماع نمرود فأمر بإحضاره ليطفيء هذا النّور من خلال النصيحة والتهديد. وكان ماهراً في الدجل، فسأل إبراهيم: إذا كنت لا تعبد الأصنام، فمن هو إلهك؟ قال: ربّي الذي يحيي ويُميت. قال: أنا اُحيي واُميت، ألا ترى أنّي اُطلق سراح المحكوم بالإعدام، واُعدم من اُريد إعدامه؟ فأجابه إبراهيم (عليه السلام) بكلام حاسم وقاطع: (فإنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبُهت الذي كفر).(6) وممّا لا شكّ فيه أنّ إبراهيم كان يعلم أنّ نمرود لا يستطيع أن يحيي الموتى، ولكن مهارته في الدجل جعلت إبراهيم يأتيه بسؤال لا قدرة له على جوابه. هجرة إبراهيم لقد أحسّت حكومة نمرود الجبّارة بخطر هذا الشاب على دولته وأنّ من الممكن أن يسبّب يقظة الشعب الرازح تحت ظلمه، وأن يحطّم القيود الإستعمارية المتسلّطة على رقاب الشعب، فصمّم على الإيقاع بإبراهيم من خلال إحراقه بالنّار التي أجّجها جهل الناس وإرهاب النظام الحاكم. وحينما أصبحت النّار برداً وسلاماً بأمر من الله تعالى وخرج إبراهيم سالماً منها، أصابت نمرود وحكومته الدهشة، وفقدوا معنوياتهم لأنّهم كانوا يصوّرون إبراهيم على أنّه شاب مغامر يريد تفرقة الناس، لكنّه ظهر قائداً إلهيّاً وبطلا شجاعاً يستطيع أن يقارع الجبّارين لوحده. ولهذا السبب صمّم نمرود وأعوانه ـ الذين كانوا يمتصّون قوّتهم من دماء الناس البؤساء ـ على أن يقفوا بوجه إبراهيم بكلّ قواهم. ومن جهة أُخرى فإنّ إبراهيم قد أدّى دوره في هذا المجتمع، حيث جعل القلوب المستعدّة تميل إليه وتؤمن بدعوته، ولذلك رأى من الأفضل أن يترك أرض بابل هو والتابعون له، ولأجل نشر دعوته سافر إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر، وإستطاع هناك أن يدعو كثيراً من الناس إلى التوحيد وعبادة الواحد القهّار. المرحلة الأخيرة للرسالة أمضى إبراهيم (عليه السلام) عمره في جهاد الوثنيين وخصوصاً صنمية الإنسان، وإستطاع أن ينير قلوب المؤمنين بنور التوحيد، ويبعث فيهم روحاً جديدة، ويحرّر مجاميع أُخرى من قيود المتسلّطين. والآن يجب أن يصل إلى ذروة عبوديته لله ويبذل كلّ ما عنده في هذا الطريق بإخلاص، ويصل إلى مرحلة الإمامة بقفزة روحية كبيرة من خلال الإمتحانات الإلهيّة الكثيرة، وفي نفس الوقت يقوم ببناء القواعد للكعبة حتّى تكون أكبر قاعدة للعبادة التوحيديّة، ويدعو جميع المؤمنين لهذا المؤتمر العظيم إلى جانب هذا البيت الكريم. وقد أدّى حسد سارة زوجته الأُولى لهاجر التي كانت جارية وإختارها زوجة له وولدت له إسماعيل .. أدّى إلى أن يأتي بها من فلسطين بأمر الله إلى مكّة ويتركها وإبنها بين الصحاري والجبال اليابسة، بدون مأوى ولا قطرة ماء، ويعود ثانية إلى فلسطين. إنّ ظهور عين زمزم ومجيء قبيلة جرهم والسّماح لها بالسكن كلّ ذلك أدّى لأن تعمّر هذه الأرض. (ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليه وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون). ومن الطريف أن يقول بعض المؤرّخين: حينما وضع إبراهيم زوجته هاجر وإبنه الرضيع إسماعيل في مكّة وأراد الرجوع، نادته: ياإبراهيم، من أمرك أن تضعنا في أرض قاحلة لا نبات فيها ولا ماء ولا إنسان؟ فأجابها بجملة قصيرة: ربّي أمرني بذلك، قالت: ما دام كذلك فإنّ الله لا يتركنا. وقد سافر إبراهيم(عليه السلام) مراراً إلى مكّة بقصد زيارة إبنه إسماعيل، وفي واحدة من هذه السفرات أدّى مراسم الحجّ، وجاء بإسماعيل الذي كان شابّاً قوياً ومؤمناً صادقاً إلى المذبح ليفتدي به بأمر من الله وعندما لبّى أمر ربّه وخرج من هذا الإمتحان العظيم بأفضل صورة، قبل الله سبحانه وتعالى فديته، وحفظ له إسماعيل، وبعث له كبشاً ليفتدي به. وفي النهاية وبعد أن أبلى بلاءً حسناً نال كبير درجة من المقامات التي يمكن للإنسان أن يصل إليها حيث يقول القرآن الكريم: (وإذا ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهنّ قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال من ذرّيتي قال لا ينال عهدي الظالمين). منزلته (عليه السلام) في القرآن توضّح الآيات القرآنية أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى لإبراهيم مقاماً لم يعطه لأحد من الأنبياء من قبله، ويمكن ترتيب الآيات كما يلي: 1 ـ انّ الله تعالى ذكره بعنوان أنّه "أُمّة": (إنّ إبراهيم كان اُمّةً قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين)(7). 2 ـ مقام الخلّة (واتّخذ الله إبراهيم خليلا).(8) وقد جاء في بعض الرّوايات : (إنّما إتّخذ الله إبراهيم خليلا لأنّه لم يردّ أحداً ولم يسأل أحداً قطّ غير الله تعالى)(9). 3 ـ وكان من المصطفين الأخيار(10)، ومن الصالحين(11)، والقانتين(12)، والصدّيقين(13)، وكان أوّاهاً حليماً(14)، ومن الموفين بعهدهم(15). 4 ـ إنّ إبراهيم كان محبّاً للضيوف، وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه كان يلقّب بـ "أبي الأضياف".(16) 5 ـ وكان من المتوكّلين على الله، ولا يطلب حاجةً إلاّ منه، وقد ورد في التاريخ أنّه كان معلّقاً بين السّماء والأرض أثناء قذفه بالمنجنيق سأله جبرئيل: هل لك حاجة؟ قال: نعم، ولكن ليست منك بل من الله!(17). 6 ـ وكان شجاعاً مقداماً حيث وقف وحيداً بوجه التعصّبات الوثنيّة، ولم يُظهر أي خوف في مقابلتهم، كسّر أصنامهم وجعلها ركاماً، وتحدّث مع نمرود وأعوانه بكلّ شجاعة. 7 ـ كان لإبراهيم (عليه السلام) منطق قوي وإستطاع من خلال عباراته وجمله القصيرة المحكمة أن يبطل أقوال المضلّين. ولم يثنه بأسهم عن مواصلة الطريق، بل كان يواجه الأُمور بالصبر والحلم المعبّرين عن روحه الكبيرة، كما جاء في محاجته مع نمرود ومع عمّه آزر ومع القضاة أثناء محاكمته حيث قالوا له: (ءأنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم، قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) لقد إستطاع من خلال هذه الجملة أن يفحمهم ويسدّ عليهم طريق الردّ عليه، فإذا قالوا: آلهتنا لا تسمع ولا تنطق. فتبّاً لهذه الآلهة! وإذا قالوا: تنطق. فلماذا لا يتكلّمون؟! (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنّكم أنتم الظالمون) أي قالت لهم أنفسهم: إنّكم ظالمون، وعلى أي حال كان عليهم أن يجيبوا (ثمّ نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) هكذا كان جواب إبراهيم كالصاعقة على رؤوسهم (اُف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون). وعندما رأوا أنّهم لا يستطيعون مقاومة هذا المنطق الرصين (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين). هذا نموذج من المنطق الواضح المبيّن والذي كان إبراهيم فيه هو الفائز. 8 ـ لقد عدّ القرآن الكريم الحنيفيّة الإبراهيميّة واحدة من مفاخر المسلمين(18)(وأنّه هو الذي سمّاكم بالمسلمين)(19). 9 ـ وضع مناسك الحجّ بأمر من الله، ولذلك إمتزج اسمه في جميع مراسيم الحجّ، حيث يتذكّر كلّ مسلم أثناء أدائه للفرائض هذه الشخصيّة العظيمة ويحسّ بعظمة نبوّته في قلبه، إنّ أداء فريضة الحجّ بدون ذكر إبراهيم تصبح خاوية المعنى. 10 ـ لقد حاولت كلّ المذاهب أن تنسب إبرهيم لنفسها، فاليهودية والنصرانية تؤكّدان على صلتهما به بسبب شخصيته الكبيرة، ولكن القرآن الكريم ينفي هذه الصلة حيث يقول تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين)(20) * * * آمين ربّ العالمين نهاية المجلد السّابع ــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ يقول فريد وجدي في دائرة المعارف في مادّة (القطران) مائع ناتج من تقطير الفحم الحجري، والقطران النباتي يتمّ الحصول عليه من بعض الأشجار. 2 ـ سورة طه، 105 ـ 108. 3 ـ نهج البلاغة، الخطبة 176. 4 ـ ذكر بعض المؤرخّين أنّ ولادته (عليه السلام) ـ في مدينة (أور) التابعة لدولة بابل. 5 ـ الأنعام، 75 ـ 79. 6 ـ البقرة، 258. 7 ـ النحل، 120. 8 ـ النساء، 125. 9 ـ سفينة البحار، ج1، ص74. 10 ـ سورة ص، 47. 11 ـ النحل، 122. 12 ـ النحل، 120. 13 ـ مريم، 41. 14 ـ التوبة، 114. 15 ـ النجم، 37. 16 ـ سفينة البحار، ج1، ص74. 17 ـ الكامل لابن الأثير ج1 ـ ص99. 18 ـ سورة الأنبياء، 63 ـ 67، وسورة الحجّ، 78 (ملّة أبيكم إبراهيم). 19 ـ الممتحنة، 4. 20 ـ آل عمران، 67.