[590] الله ليس بالأمر المشكل بالنسبة لقدرة الله تعالى . إنّ رحمة الله تستوجب ألاّ يحترق الأبرياء بنار الأشقياء المذنبين ، وألاّ يؤاخذ المؤمنون بجريرة غير المؤمنين (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) وهكذا هلكوا وصاروا "شذر مذر" ومضت آثارهم مع الريح (كأن لم يغنوا فيها إلاّ أن ثمود كفروا بربّهم ألا بعداً لثمود) عن لطف الله ورحمته . * * * ملاحظات 1 ـ نجد في هذه الآيات أن رحمة الله بالنسبة للمؤمنين واسعة وشاملة ، بحيث تنقلهم جميعاً إلى مكان آمن ، ولا تحرق الأخضر واليابس بالعذاب . ومن الممكن أن تحدث حوادث مؤلمة كالسيول والأوبئة والزلازل التي قد تأتي على الصغير والكبير ، وليست هذه الحوادث ترجمة لعذاب الله ، وإلاّ فإنّه محال على الله في منطق عدله أن يعذب حتى واحداً بريئاً بجرم ملايين المذنبين . طبعاً يمكن أن يوجد أناس ساكتون بين جماعة مذنبين فيؤخذوا بوزرهم ، لأنّهم لا يردعونهم عن الظلم والفساد ، فمصيرهم ـ إذاً ـ سيكون كمصير المجرمين. ولكنّهم إذا عملوا بواجبهم فمحال أن تنزل عليهم حادثة أو يحيق بهم العذاب "فصّلنا هذا الموضوع في الأبحاث المرتبطة بمعرفة الله ونزول البلاء والحوادث في كتب معرفة الله"(1) . 2 ـ ويظهرُ جيداً من الآيات المتقدمة أنّ عقاب المعاندين والطغاة لا يختصّ بالجانب المادي فحسب ، بل يشمل الجانب المعنوي ، لأنّ نتيجة أعمالهم ومصيرهم المخزي وحياتهم الملوّثة تسجل فصولها في التاريخ بما يكون عاراً عليهم ، في حين يكتب التاريخ حياة المؤمنين بسطور من ذهب وصحائف من نور . 3 ـ ما المراد من الصيحة ؟ الصيحة في اللغة معناها الصوت العظيم الذي يصدر من فم الإنسان أو الحيوان عادة .. ولكن لا تختصّ بهذا المعنى ، بل تشمل كل صوت عظيم .. نقرأ في القرآن الكريم أن عدّة أقوام آثمين أخذتهم الصيحة من السماء عقاباً لهم على ذنوبهم ، "ثمود" الذين نتحدث عنهم "وقوم لوط" كما نقرأ في سورة الحجر الآية (73) "قوم شعيب" كما ذُكروا في سورة هود الآية (94) . ويستفاد من بعض الآيات الأُخرى من القرآن أنّ قوم صالح "ثموداً" عوقبوا بالصاعقة (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عاد وثمود)(2) ومن هنا يتبيّن أنّ المراد من الصيحة هو صوت الصاعقة الموحش! سؤال : هل يستطيع صوت الصاعقة الموحش أن يبيد قوماً أو جماعة بأسرهم؟! والجواب : نعم ، حتماً ! .. لأنّنا نعرف أن الأمواج الصوتية إذا تجاوزت حدّاً معيناً تستطيع أن تكسّر الزجاج ، وقد تتهدم على أثرها عمارات ، وقد تشل أعضاء البدن الداخلية . الطائرات حين تخترق الجدار الصوتي وتكون سرعتها أكثر من سرعة أمواج الصوت يسقط بعض الأفراد فاقدو الوعي ، أو تُسقط الحامل جنينها بسبب ذلك وقد يتكسر جميع الزّجاج في عمارات المنطقة التي تمرّ عليها هذه الطائرات . وطبيعي أنّه إذا كانت شدّة الأمواج الصوتية أكثر ممّا ذكرنا ، فمن السهولة أن تحدث اختلالاً قاتلاً في شبكات الاعصاب الدماغ وحركات القلب وتسبب موت الإنسان! : ومن الثابت ـ طبقاً لما في آيات القرآن ـ أنّ نهاية هذا العالم تكون بصيحة عامّة أيضاً .. (ما ينظرون إلاّ صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصّمون)(3)، كما أنّ يوم القيامة يبدأ بصيحة موقظة أيضاً (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) . 4 ـ "الجاثم" من مادة "جثم" ومعناه المصدري الجلوس على الركب ، كما يأتي بمعنى السقوط للوجه (ولزيادة التوضيح في هذا المجال يراجع في التّفسير الأمثل ذيل الآية 79 من سورة الأعراف) . ويستفاد طبعاً من التعبير بـ "جاثمين" أنّ الصيحة من السماء كانت السبب في موتهم ، إلاّ أنّ أجسادهم كانت ملقاةً على الأرض ، لكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ الصاعقة احرقتهم بنارها ، ولا منافاة بين الأمرين ، لأنّ أثر الصوت الموحش للصاعقة يتّضح فوراً ، وأمّا آثار حرقها ـ وخاصّة لمن هم داخل البيوت ـ فيظهر بعدئذ . 5 ـ لفظ "لم يغنوا" مشتق من مادة "غني" ومعناه الإقامة في المكان ، ولا يبعد أن يكون مأخوذاً من المفهوم الأصلي وهو "الغنى" ومعناه عدم الحاجة ، لأنّ الغني غير المحتاج له بيت مهيّأ ومعدّ وليس مجبوراً أن ينتقل كل زمان من منزل إلى آخر ـ والتعبير بجملة (كأن لم يغنوا فيها) وارد في ثمود ، كما هو وارد في قوم شعيب ، ومفهوم هذا التعبير أنّ طومار حياتهم قد طُوي حتى تظن أنّهم لم يكونوا من سكنة هذه الأرض. * * * نهاية المجلد السّادس ــــــــــــــــــــــــــــ (1) في المجلد الخامس من التّفسير الأمثل وردت توضيحات مفيدة لفهم هذا المقصود . (2) فصلت، الآية 13. (3) سورة يس، 49.