قوله : ( ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته ولا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بالجنة ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم ولا نقنطهم ) .
ش : وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ C في حق نفسه وفي حق غيره قال تعالى : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } وقال تعالى : { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } وقال تعالى : { وإياي فاتقون } { وإياي فارهبون } { فلا تخشوهم واخشوني } ومدح أهل الخوف فقال تعالى : { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بآيات ربهم يؤمنون } إلى قوله : { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } [ وفي المسند و الترمذي عن عائشة Bها قالت : قلت : يا رسول الله { الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } هو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق ؟ قال : لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه ] قال الحسن Bه : عملوا - والله - بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم إن المؤمن جمع إحسانا وخشية والمنافق جمع إساءة وأمنا انتهى وقد قال تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم } فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إيمانهم بهذه الطاعات ؟ فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى شرعة وقدرته وثوابه وكرامته ولو أن رجلا له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها ورجا أنه يأتي من مغلها مثل ما يأتي من حرث وزرع وتعاهد الأرض - : لعده الناس من أسفه السفهاء ! وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع ! أو يصبر أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام ! وأمثال ذلك فكذلك من حسن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئا استلزم رجاؤه أمورا : أحدها : محبة ما يرجوه الثاني : خوفه من فواته الثالث : سعيه في تحصيله بحسب الإمكان وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني والرجاء شيء والأماني شيء آخر فكل راج خائف والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات وقال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فالمشرك لا ترجى له المغفرة لأن الله نفى عنه المغفرة وما سواه من الذنوب في مشيئة الله إن الله غفر له وإن شاء عذبه وفي معجم الطبراني : الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين : ديوان لا يغفر الله منه شيئا وهو الشرك بالله ثم قرأ : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } وديوان لا يترك الله منه شيئا مظالم العباد بعضهم بعضا وديوان لا يعبأ الله به وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه .
وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر وستأتي الإشارة الى ذلك عند قول الشيخ C : وأهل الكبائر من أمة محمد في النار لا يخلدون ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له وهو : أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر وقد يقرن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب وهو قدر زائد على مجرد الفعل والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره .
[ وأيضا ] : فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره فإن فاعل السيئات يسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة : السبب الأول : التوبة قال تعالى : { إلا من تاب } { إلا الذين تابوا } وغيرها والتوبة النصوح وهي الخالصة لا يختص بها ذنب دون ذنب لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة ؟ حتى لو تاب من ذنب وأصر على آخر لا تقبل ؟ والصحيح أنها تقبل وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها ؟ أم لا بد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك ؟ حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر مثلا هل يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر ؟ أم لا بد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه ؟ أو يتوب توبة عامة من كل ذنب ؟ وهذا هو الأصح : أنه لا بد من التوبة مع الإسلام وكون التوبة سببا لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها - مما لا خلاف فيه بين الأمة وليس شيء يكون سببا لغفران جميع الذنوب إلا التوبة قال تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } وهذا لمن تاب ولهذا قال : { لا تقنطوا } وقال بعدها : { وأنيبوا إلى ربكم } الآية السبب الثاني : الاستغفار قال تعالى : { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } لكن الاستغفار تارة يذكر وحده وتارة يقرن بالتوبة فإن ذكره وحده دخلت معه التوبة كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار فالتوبة تتضمن الاستغفار والاستغفار يتضمن التوبة وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار : طلب وقاية شر ما مضى والتوبة : الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله ونظير هذا : الفقير والمسكين إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر وإذا ذكرا معا كان لكل منهما معنى قال تعالى : { إطعام عشرة مساكين } { فإطعام ستين مسكينا } { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقل والمعدم ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } الآية - : كان المراد بأحدهما المقل والآخر المعدم على خلاف فيه وكذلك : الإثم والعدوان والبر والتقوى والفسوق والعصيان ويقرب من هذا [ المعنى ] : الكفر والنفاق فإن الكفر أعم فإذا ذكر الكفر شمل النفاق وإن ذكرا معا كان لكل منهما معنى وكذلك الإيمان والإسلام على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى السبب الثالث : الحسنات : فإن الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها فالويل لمن لاغلبت [ آحاده عشراته ] وقال تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ وقال A وأتبع السيئة الحسنة تمحها ] السبب الرابع : المصائب الدنيوية [ قال A : ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا غم ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها - إلا كفر بها من خطاياه ] [ وفي المسند : أنه لما نزل قوله تعالى : { من يعمل سوءا يجز به } - قال أبو بكر : يا رسول الله نزلت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوء ؟ فقال : يا أبا بكر ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست يصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون به ] .
فالمصائب نفسها مكفرة وبالصبر عليها يثاب العبد وبالسخط يأثم والصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه ويكفر ذنبه بها وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله والصبر والسخط من فعله وإن كان الأجر قد يحصل بغير عمل من العبد بل هدية من الغير أو فضلا من الله من غير سبب قال تعالى : { ويؤت من لدنه أجرا عظيما } فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم وكثيرا ما يفهم من الأجر غفران الذنوب وليس ذلك مدلوله وإنما يكون من لازمه السبب الخامس : عذاب القبر وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى السبب السادس : دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات السبب السابع : ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقة أو قراءة أو حج ونحو ذلك وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى السبب الثامن : أهوال يوم القيامة وشدائده السبب التاسع : ما ثبت في الصحيحين : [ أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ] السبب العاشر : شفاعة الشافعين كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها السبب الحادي عشر : عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة كما قال تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه فلا بد من دخوله إلى الكير ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان بل من قال : لا إله إلا الله كما تقدم من حديث أنس Bه وإذا كان الأمر كذلك امتنع القطع لأحد معين من الأمة غير من شهد له الرسول A بالجنة ولكن نرجو للمحسنين ونخاف عليهم