@ 261 @ { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا } لأن في هذا إشعاراً بلقاء العدو ، ثم ما جاء بين هاتين الآيتين جاء كالاعتراض ، فقوله : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ * فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ } اعتبار بمن مضى ممن فرّ من الموت ، فمات ، أن لا ننكص ولا نحجم عن القتال ، وبيان المقاتل فيه ، وأنه سبيل الله فيه حث عظيم على القتال ، إذ كان الإنسان يقاتل للحمية ، ولنيل عرض من الدنيا ، والقتال في سبيل الله مورث للعز الأبدي والفوز السرمدي . .
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يسمع ما يقوله المتخلفون عن القتال والمتبادرون إليه ، ويعلم ما انطوت عليه النيات ، فيجازي على ذلك . .
{ مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } هذا على سبيل التأسيس والتقريب للناس بما يفهمونه والله هو الغني الحميد ، شبه تعالى عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض ، كما شبه بذل النفوس والأموال في الجنة بالبيع والشراء . .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله ، وكان ذلك مما يفضي إلى بذل النفوس والأموال في إعزاز دين الله ، أثنى على من بذل شيئاً من ماله في طاعة الله ، وكان هذا أقل حرجاً على المؤمنين ، إذ ليس فيه إلاَّ بذل المال دون النفس ، فأتى بهذه الجملة الإستفهامية المتضمنة معنى الطلب . .
قال ابن المغربي : انقسم الخلق حين سمعوا هذه الآية إلى فرق ثلاثة . .
الأولى : اليهود ، قالوا : إن رب محمد يحتاج إلينا ونحن أغنياء ، وهذه جهالة عظيمة ، ورد عليهم بقوله : { لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } . .
والثانية : آثرت الشح والبخل ، وقدّمت الرغبة في المال . .
الثالثة : بادرت إلى الامتثال ، كفعل أبي الدحداح وغيره . انتهى . .
و : مَنْ ، استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، وخبره : ذا ، و : الذي ، نعت : لذا ، أو : بدل منه ، ومنع أبو البقاء أن تكون : من ، وذا ، بمنزلة اسم واحد ، كما كانت : ما ، مع : ذا ، قال : لأن : ما ، أشد إبهاماً من : مَنْ ، إذا كانت : من ، لمن يعقل . وأصحابنا يجيزون تركيب : من ، مع : ذا ، في الاستفهام وتصيرهما كاسم واحد ، كما يجيزون ذلك في : ما ، و : ذا ، فيجيزون في : من ذا عندك ، أن يكون : من وذا ، بمنزلة اسم الاستفهام . .
وانتصب لفظ الجلالة : بيقرض ، وهو على حذف مضاف أي : عباد الله المحاويج ، أسند الإستقراض إلى الله وهو المنزه عن الحاجات ، ترغيباً في الصدقة ، كما أضاف الإحسان إلى المريض والجائع والعطشان إلى نفسه تعالى في قوله ، جل وعلا : ( يا إبن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني ) . الحديث خرجه مسلم ، والبخاري . .
وانتصب : قرضاً ، على المصدر الجاري على غير الصدر ، فكأنه قيل : إقراضاً ، أو على أنه مفعول به ، فيكون بمعنى : مقروض ، أي : قطعة من المال ، كالخلق بمعنى المخلوق . .
وانتصب : حسناً ، على أن يكون صفة لقوله : قرضاً ، وهو الظاهر ، أو على أن يكون نعتاً لمصدر محذوف إذا أعربنا قرضاً مفعولاً به ، أي : إقراضاً حسناً ، ووصفه بالحسن لكونه طيب النية خالصاً لله ، قاله ابن المبارك . أو : لكونه يحتسب عند الله ثوابه ، أو : لكونه جيداً كثيراً ، أو : لكونه بلا منّ ولا أذىً ، قاله عمرو بن عثمان ، أو : لكونه لا يطلب به عوضاً ، قاله سهيل بن عبد الله القشيري التستري . .
وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : فيضعفه ، بالتشديد من ضعف ، والباقون : فيضاعفه ، من ضاعف ، وقد تقدم أنهما بمعنى . وقيل : معناهما مختلف ، وقد ذكرنا ذلك عند الكلام على المفردات . .
وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، بنصب الفاء ، والباقون بالرفع على العطف على صلة الذي ، وهو قوله : يقرض ، أو على الاستئناف ، أي : فهو يضاعفه ، والأول أحسن ، لأنه لا حذف فيه ، والنصب على أن يكون جواباً للاستفهام على المعنى ، لأن الاستفهام ، وإن كان عن المقرض ، فهو عن الإقراض في المعنى فكأنه قيل : أيقرض الله أحد فيضاعفه ؟ وقال أبو علي : الرفع أحسن ، وذهب بعض النحويين إلى أنه : إذا كان الاستفهام عن المسند إليه الحكم ، لا عن الحكم ، فلا يجوز النصب بإضمار أن بعد الفاء في الجواب ، فهو محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وقد جاء في الحديث : ( من يدعوني فأستجيب له ، من يستغفرني فأغفر له ) . وكذلك سائر أدوات الإستفهام الإسمية والحرفية . .
وانتصب : أضعافاً ، على الحال من الهاء في : يضاعفه ، قيل : ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول به ، تضمن معنى فيضاعفه : فيصيره . ويجوز أن ينتصب على المصدر باعتبار أن يطلق الضعف ، وهو المضاعف أو المضعف ، بمعنى المضاعفة أو التضعيف ، كما أطلق العطاء وهو اسم