@ 5 @ هذا سيبويه لأن السابق ، إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قِبلَ المشرقِ والمغرِبِ ، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى ، ونظير ذلك : ليس الكرم أن تبذل درهماً ، ولكنَّ الكرم بذل الآلاف ، فلا يناسب : ولكنّ الكريم من يبذل الآلاف إلاَّ إن كان قبله : ليس الكريم بباذل درهم . .
وقال المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن ولكن البر بفتح الباء ، وإنما قال ذلك لأنه يكون اسم فاعل ، تقول : بررت أبرّ ، فأنا برّ وبارّ ، قيل : فبني تارة على فعل ، نحو : كهل ، وصعب ، وتارة على فاعل ، والاولى ادّعاء حذف الألف من البرّ ، ومثله : سرٌّ ، وقرّ ، ورَبٌّ ، أي : سارّ ، وقار ، وبارّ ، ورابُّ . .
وقال الفراء : من آمن ، معناه الإيمان لما وقع من موقع المصدر جعل خبراً للأوّل ، كأنه قال : ولكن البر الإيمان بالله ، والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل ، وأنشد الفراء : % ( لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى % .
ولكنما الفتيان كل فتى ندب .
) % .
جعل نبات اللحية خبراً للفتى ، والمعنى : لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى ، وقرأ نافع ، وابن عامر : ولكن بسكون النون خفيفة ، ورفع البرّ ، وقرأ الباقون بفتح النون مشدّدة ونصب البرّ ، والإعراب واضح ، وقد تقدّم نظير القراءتين في { وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } . .
{ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيّينَ } ذكر في هذه الآية إن كان الإيمان مصرحاً بها كما جاء في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال : ( أن تؤمنُ بالله وملائكتهِ وكتبهِ ورُسلهِ واليومِ الآخرِ والقدر خيره وشره ) ولم يصرح في الآية بالإيمان بالقدر ، لأن الإيمان بالكتاب يتضمنه ، ومضمون الآية : ان البرّ لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب بل بمجموع أمور . .
أحدها : الإيمان بالله ، وأهل الكتاب أخلوا بذلك ، أمّا اليهود فللتجسيم ولقولهم : { عَزِيزٌ * عَبْدُ اللَّهِ } وأمّا النصارى فلقولهم : { الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } . .
الثاني : الإيمان بالله واليوم الآخر ، واليهود أخلوا به حيث قالوا : { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا } والنصارى أنكروا المعاد الجسماني . .
والثالث : الإيمانُ بالملائكة ، واليهود عادوا جبريل . .
والرابع : الإيمان بكتب الله ، والنصارى واليهود أنكروا القرآن . .
والخامس : الإيمان بالنبيين ، واليهود قتلوهم ، وكلا الفريقين من أهل الكتاب طعنا في نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم ) . .
والسادس : بذل الأموال على وفق أمر الله ، واليهود ألقوا الشبه لأخذ الأموال . .
والسابع : إقامة الصلاة والزكاة ، واليهود يمتنعون منها . .
والثامن : الوفاء بالعهد ، واليهود نقضوه . .
وهذا النفيُ السابق ، والاستدراك ، لا يحمل على ظاهرهما ، لأنه نفي أن يكون التوجه إلى القبلة براً ، ثم حكم بأن البرّ أمورٌ . .
أحدها : الصلاة ، ولا بدَّ فيها من استقبال القبلة ، فيحمل النفي للبر على نفي مجموع البرّ ، لا على نفي أصله ، أي : ليس البر كله هو هذا ، ولكن البر هو ما ذكر ، ويحمل على نفي أصل البرّ ، لأن استقبالهم المشرق والمغرب بعد النسخ كان إثماً وفجوراً ، فلا يعدّ في البر ، أو لأن استقبال القبلة لا يكون براً إذا لم تقارنه معرفة الله تعالى ، وإنما يكون براً مع الإيمان . .
وقدم الملائكة والكتب على الرسل ، وإن كان الإيمان بوجود الملائكة وصدق الكتب لا يحصل إلاَّ بواسطة الرسل ، لأن ذلك اعتبر فيه الترتيب الوجودي ، لأن الملك يوجد أولاً ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتب ، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول ، فروعي الترتيب الوجودي الخارجي ، لا الترتيب الذهني . .
وقدّم الإيمان بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتب والرسل ، لأن المكلف له مبدأ ، ووسط ، ومنتهى ، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات ، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلاَّ بالرسالة ، وهي لا تتم إلاَّ بأمور ثلاثة : الملائكة الآتين بالوحي ، والموحى به : وهو الكتاب ، والموحى إليه : وهو الرسول . .
وقدّم الإيمان على أفعال الجوارح ، وهو : إيتاء المال والصلاة والزكاة لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح ، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان . .
وبهذه الخمسة التي هي متعلق الإيمان ، حصلت حقيقة الإيمان ، لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بوجوده وقدمه وبقائه وعلمه بكل المعلومات ، وتعلق قدرته بكل الممكنات ، وإرادته وكونه سميعاً وبصيراً متكلماً ، وكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية ، والإيمان باليوم الآخر يحصل به العلم بما يلزم ، من