@ 639 @ هذين مذاهب كثيرة في السبب الموجب لوقوفها ، أو لتحركها . وكذلك تكلموا على جرم السموات ولونها وعظمها وأبراجها ، وذكر مذاهب للمنجمين والمانوية ، وتخاليط كثيرة . والذي تكلم عليه أهل الهيئة هو شيء استدلوا عليه بعقولهم ، وليس في الشرع شيء من ذلك . والمعتمد عليه أن هذه الأشياء لا يعلم حقيقة خلقها إلا الله تعالى ، ومن أطلعه الله على شيء منها بالوحي { أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا } ، { وَأَحْصَى كُلَّ شَىْء عَدَداً } . .
{ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } : اختلافهما بإقبال هذا وإدبار هذا ، أو اختلافهما بالأوصاف في النور والظلمة ، والطول والقصر ، أو تساويهما ، قاله ابن كيسان . وقدم الليل على النهار لسبقه في الخلق ، قال تعالى : { وَءايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } . وقال قوم : إن النور سابق على الظلمة ، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في ليلة اليوم . فعلى القول الأول : تكون ليلة اليوم هي التي قبله ، وهو قول الجمهور ؛ وعلى القول الثاني : ليلة اليوم هي الليلة التي تليه ، وكذلك ينبني على اختلافهم في النهار ، اختلافهم في مسألة : لو حلف لا يكلم زيداً نهاراً . .
{ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ } : أول من عمل الفلك نوح ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، وقال له جبريل عليه السلام : ضعها على جؤجؤ الطائر . فالسفينة طائر مقلوب ، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ، قاله أبو بكر بن العربي . وآيتها تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ، ووقوفها فوقه مع ثقلها وتبليغها المقاصد . ولو رميت في البحر حصاة لغرقت . ووصفها بهذه الصفة من الجريان ، لأنها آيتها العظمى ، وجعل الصفة موصولاً ، صلته تجري : فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها . وذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد ، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر . والألف واللام فيه للجنس ، وأسند الجريان للفلك على سبيل التوسع ، وكان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري . { بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ } : يحتمل أن تكون ما موصولة ، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر والبضائع المنقولة من بلد إلى بلد ، فتكون الباء للحال . ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي ينفع الناس في تجاراتهم وأسفارهم للغزو والحج وغيرهما ، فتكون الباء للسبب . واقتصر على ذكر النفع ، وإن كانت تجري بما يضر ، لأنه ذكرها في معرض الامتنان . . .
{ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء } : أي من جهة السماء . من الأولى لابتداء الغاية تتعلق ب أنزل ، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما ، أي والذي أنزله الله من السماء . ومن الثانية مع ما بعدها بدل من قوله : { مّنَ السَّمَاء } ، بدل اشتمال ، فهو على نية تكرار العامل ، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى ، أو للتبعيض ، وتتعلق ب إنزل . ولا يقال : كيف تتعلق ب إنزل من الأولى والثانية ، لأن معنييهما مختلفان . { فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } : عطف على صلة ما ، الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات ، وبه عائد على الموصول . وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات ، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره . وهما كنايتان غريبتان ، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذبة والنامية والمحركة ، وما لم يظهر فهو كامن فيها ، كأنه دفين فيها ، وله له قبر . .
{ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ } : إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين ، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول ، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض وتقديره : وبث فيها من كل دابة . لكن حذف هذا الضمير ، إذا كان مجروراً بالحرف ، له شرط ، وهو أن يدخل على الموصول ، أو الموصوف بالموصول ، أو المضاف إلى الموصول حرف جر ، مثل ما دخل على الضمير لفظاً ومعنى ، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظاً ومعنى ، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع ، وأن لا يكون محصوراً ، ولا في معنى المحصور ، وأن يكون متعيناً للربط . وهذا الشرط مفقود هنا . قال الزمخشري : فإن قلت قوله : { وَبَثَّ فِيهَا } ، عطف على أنزل أم أحيا ؟ قلت : الظاهر أنه عطف على أنزل