@ 610 @ التفاسير في الذين آتيناهم الكتاب ، وأبعد من ذهب إلى أنه أريد بهذا الفريق جهال اليهود والنصارى ، الذين قيل فيهم : { وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِىَّ } ، للإخبار عن هذا الفريق أنهم يكتمون الحق وهم عالمون به ، ولوصف الأمّيين هناك بأنهم لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ . والحق المكتوم هنا هو نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، قاله قتادة ومجاهد ، والتوجه إلى الكعبة ، أو أن الكعبة هي القبلة ، أو أعم من ذلك ، فيندرج فيه كل حق . .
{ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : جملة حالية ، أي عالمين بأنه حق . ويقرب أن يكون حالاً مؤكدة ، لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به ، لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم . وقيل : متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب ، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق ، فيكون إذ ذاك حالاً مبينة . .
{ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ } : قرأ الجمهور : برفع الحق على أنه مبتدأ ، والخبر هو من ربك ، فيكون المجرور في موضع رفع . أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الحق من ربك ، والضمير عائد على الحق المكتوم ، أي ما كتموه هو الحق من ربك ، ويكون المجرور في موضع الحال ، أو خبراً بعد خبر . وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره : الحق من ربك يعرفونه . والألف واللام في الحق للعهد ، وهو الحق الذي عليه الرسول ، أو الحق الذي كتموه ، أو للجنس على معنى : أن الحق هو من الله ، لا من غيره ، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله ، كالذي عليه الرسول ، وما لم تثبت حقيقته ، فليس من الله ، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب . وقرأ علي بن أبي طالب : الحق بالنصب ، وأعرب بأن يكون بدلاً من الحق المكتوم ، فيكون التقدير : يكتمون الحق من ربك ، قاله الزمخشري ؛ أو على أن يكون معمولاً ليعلمون ، قاله ابن عطية ، ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر ، أي وهم يعلمونه كائناً من ربك ، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل ، كقوله : .
لا أرى الموت يسبق الموت شيء .
أي يسبقه شيء . وجوّز ابن عطية أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره : الزم الحق من ربك ، ويدل عليه الخطاب بعده : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } . .
والمراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمّة . ودل الممترين على وجودهم ، ونهى أن يكون منهم ، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل . فقولك : لا تكن ظالماً ، أبلغ من قولك : لا تظلم ، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم . وقولك : لا تكن ظالماً نهي عن الكون بهذه الصفة . والنهي عن الكون على صفة ، أبلغ من النهي عن تلك الصفة ، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة ، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة . والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة . وفرق بين ما يدل على عموم ، ويستلزم عموماً ، وبين ما يدل على عموم فقط ، فلذلك كان أبلغ ، ولذلك كثر النهي عن الكون . قال تعالى : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ * فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ * مِنْهُ } . والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي . والمعنى : لا تظلم في كل أكوانك ، أي في كل فرد من أكوانك ، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم ، فتصير كان فيه نصاً على سائر الأكوان ، بخلاف لا تظلم ، فإنه يستلزم الأكوان . وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي ، وكانت المشدّدة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة . والمعنى : فلا تكونن من الذين يشكون في الحق ، لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال ، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك . .
{ وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا } ، لما ذكر القبلة التي