@ 603 @ .
{ فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } : هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالاً محذوفة ، التقدير : قد نرى تقلب وجهك في السماء طالباً قبلة غير التي أنت مستقبلها . وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه ، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها . وجاء الوعد قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ، ثم بإنجاز الوعد ، فيتوالى السرور مرتين ، ولأن بلوغ المطلوب بعد الوعد به أنس في التوصل من مفاجأة وقوع المطلوب . ونكر القبلة ، لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة ، فتعرف بالألف واللام . وليس في اللفظ ما يدل على أنه كان يطلب باللفظ قبلة معينة ، ووصفها بأنها مرضية له لتقربها من التعيين ، لأن متعلق الرضا هو القلب ، وهو كان يؤثر أن تكون الكعبة ، وإن كان لا يصرّح بذلك . قالوا : ورضاه لها ، إما لميل السجية ، أو لاشتمالها على مصالح الدين . والمعنى : لنجعلنك تلي استقبال قبلة مرضية لك ، ولنمكننك من ذلك . .
{ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } : أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة . وبهذا الأمر نسخ التوجه إلى بيت المقدس . قالوا : وإنما لم يذكر في الصلاة ، لأن الآية نزلت وهو في الصلاة ، فأغنى التلبس بالصلاة عن ذكرها . ومن قال نزلت في غير الصلاة ، فأغنى عن ذكر الصلاة أن المطلوب لم يكن إلا ذلك ، أعني : التوجه في الصلاة . وأقول : في قوله : { فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } ما يدل على أن المقصود هو في الصلاة ، لأن القبلة هي التي يتوجه إليها في الصلاة . وأراد بالوجه : جملة البدن ، لأن الواجب استقبالها بجملة البدن . وكنى بالوجه عن الجملة ، لأنه أشرف الأعضاء ، وبه يتميز بعض الناس عن بعض . وقد يطلق ويراد به نفس الشيء ، ولأن المقابلة تقتضي ذلك ، وهو أنه قابل قوله : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } بقوله : { فَوَلّ وَجْهَكَ } . وتقدّم أن الشطر يطلق ويراد به النصف ، ويطلق ويراد به النحو . وأكثر المفسرين على أن المراد بالشطر تلقاؤه وجانبه ، وهو اختيار الشافعي . وقال الجبائي ، وهو اختيار القاضي : المراد منه وسط المسجد ومنتصفه ، لأن الشطر هو النصف ، والكعبة بقعة في وسط المسجد . والواجب هو التوجه إلى الكعبة ، وهي كانت في نصف المسجد ، فحسن أن يقال : { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ } ، يعني النصف من كل جهة ، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة . ويدل على صحة ما ذكرناه . أن المصلي خارج المسجد متوجهاً إلى المسجد ، لا إلى منتصف المسجد الذي هو الكعبة ، لم تصح صلاته . وأنه لو فسرنا الشطر بالجانب ، لم يكن لذكره فائدة ، ويكون لا يدل على وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو الكعبة . قال ابن عباس وغيره : وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) إلى البيت كله . وقال ابن عمر : إنما وجه هو وأمّته حيال ميزاب الكعبة ، والميزاب هو قبلة المدينة والشام ، وهناك قبلة أهل الأندلس بتقريب ، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق ، وفي حرف عبد الله ، فول وجهك تلقاء المسجد الحرام . والقائلون بأن معنى الشطر : النحو ، اختلفوا ، فقال ابن عباس ؛ البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول مالك . وقال آخرون : القبلة هي الكعبة ، والظاهر أن المقصود بالشطر : النحو والجهة ، لأن في استقبال عين الكعبة حرجاً عظيماً على من خرج لبعده عن مسامتنها . وفي ذكر المسجد الحرام ، دون ذكر الكعبة ، دلالة على أن الذي يجب هو مراعاة جهة الكعبة ، لا مراعاة عينها . واستدل مالك من قوله : { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، على أن المصلي ينظر أمامه ، لا إلى موضع سجوده ، خلافاً للثوري والشافعي والحسن بن حيّ ، في أنه يستحب أن ينظر إلى موضع سجوده ، وخلافاً لشريك القاضي ، في أنه ينظر القائم إلى موضع سجوده ، وفي الركوع إلى موضع قدميه ، وفي السجود إلى موضع أنفه ، وفي القعود إلى موضع حجره . قال الحافظ أبو بكر بن العربي : إنما قلنا ينظر أمامه ، لأنه إن حنى رأسه ذهب ببعض القيام المعترض عليه في الرأس ، وهو أشرف الأعضاء ، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج ، { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } . .
{ إِن كُنتُمْ } : هذا عموم في الأماكن التي يحلها