@ 547 @ الألفة والأمر بالمعروف ، وهو الوفاء والنهي عن المنكر ، وهو الحجة . الثالث عشر : هي : تجعلني إماماً ، وتجعل البيت مثابة وأمناً ، وترينا مناسكنا ، وتتوب علينا ، وهذا البلد آمناً ، وترزق أهله من الثمرات . فأجابه الله في ذلك بما سأله ، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك . .
وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما ابتلى الله به إبراهيم ، إذ كلها ابتلاه بها ، ولا يحمل ذلك على الحصر في العدد ، ولا على التعيين ، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض . وهذه الأشياء التي فسر بها الكلمات ، إن كانت أقوالاً ، فذلك ظاهر في تسميتها كلمات ، وإن كانت أفعالاً ، فيكون إطلاق الكلمات عليها مجازاً ، لأن التكاليف الفعلية صدرت عن الأوامر ، والأوامر كلمات . سميت الذات كلمة لبروزها عن كلمة كن . قال تعالى : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } . وقد تكلم بعض المفسرين في أحكام ما شرحت به الكلمات من : المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والفرق ، والسدل ، والسواك ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وتقليم الأظفار ، والاستنجاء ، والختان ، والشيب وتغييره ، والثريد ، والضيافة . وهذا يبحث فيه في علم الفقه ، وليس كتابنا موضوعاً لذلك ، فلذلك تركنا الكلام على ذلك . .
فأتمهن : الضمير المستكن في فأتمهن يظهر أنه يعود إلى الله تعالى ، لأنه هو المسند إليه الفعل قبله على طريق الفاعلية . فأتمهن معطوف على ابتلى ، فالمناسب التطابق في الضمير . وعلى هذا ، فالمعنى : أي أكملهن له من غير نقص ، أو بينهن ، والبيان به يتم المعنى ويظهر ، أو يسر له العمل بهن وقوّاه على إتمامهن ، أو أتم له أجورهن ، أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين ، أقوال خمسة . ويحتمل أن يعود الضمير المستكن على إبراهيم . فالمعنى على هذا أدامهن ، أو أقام بهن ، قاله الضحاك ؛ أو عمل بهن ، قاله يمان ؛ أو وفى بهن ، قاله الربيع ، أو أدّاهن ، قاله قتادة . خمسة أقوال تقرب من الترادف ، إذ محصولها أنه أتى بهن على الوجه المأمور به . واختلفوا في هذا الابتلاء ، هل كان قبل نبوته أو بعدها ؟ فقال االقاضي : كان قبل النبوة ، لأنه نبه على أن قيامه بهن كالسبب ، لأنه جعله إماماً ، والسبب مقدم على المسبب ، فوجب كون الابتلاء مقدماً في الوجود على صيرورته إماماً . وقال آخرون : إنه بعد النبوة ، لأنه لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي ، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك . أجاب القاضي : بأنه يحتمل أنه أوحى إليه على لسان جبريل بهذه التكاليف الشاقة ، فلما تمم ذلك ، جعله نبياً مبعوثاً إلى الخلق . .
{ قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ } : تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفاً ، كانت قال استئنافاً ، فكأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات ؟ فقيل : { قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } . وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها ، أي وقال إني جاعلك للناس إماماً ، إذ ابتلاه ، ويجوز أن يكون بياناً لقوله : ابتلى ، وتفسيراً له . للناس : يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه ، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم ، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم . وللناس : في موضع الحال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها ، التقدير : إماماً كائناً للناس ، قالوا : ويحتمل أن يكون متعلقاً بجاعلك ، أي لأجل الناس . وجاعل هنا بمعنى مصير ، فيتعدى لاثنين ، الأول : الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل ، والثاني : إماماً . قيل : قال أهل التحقيق : والمراد بالإمام هنا : النبي ، أي صاحب شرع متبع ، لأنه لو كان تبعاً لرسول ، لكان مأموماً لذلك الرسول لا إماماً ماله . ولأن لفظ الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء ، ومن يكون كذلك ، لا يكون إلا نبياً . ولأن الأنبياء من حيث يجب على الخلق اتباعهم هم أئمة ، قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } . والخلفاء أيضاً أئمة ، وكذلك القضاة والفقهاء والمصلي بالناس ، ومن يؤتم به في الباطل . قال تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } . فلما تناول الاسم هؤلاء كلهم ، وجب أن يحمل هنا على أشرف المراتب وأعلاها ، لأنه ذكره في معرض الامتنان ، فلا بد أن يكون أعظم نعمة ، ولا شيء أعظم من النبوة .