@ 352 @ نذير لهم بعد أن استعجلوا بالعذاب ، وأنه ليس له تقديم العذاب ولا تأخيره ، ذكر له تعالى مسلاة ثانية باعتبار من مضى من الرسل والأنبياء وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم متمنين لذلك مثابرين عليه ، وأنه ما منهم أحد إلاّ وكان الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه وبث ذلك إليهم وإلقائه في نفوسهم ، كما أنه صلى الله عليه وسلم ) كان من أحرص الناس على هدى قومه وكان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث يلقون لقومه وللوافدين عليه شبهاً يثبطون بها عن الإسلام ، ولذلك جاء قبل هذه الآية { وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِىءايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } وسعيهم بإلقاء الشبه في قلوب من استمالوه ، ونسب ذلك إلى الشيطان لأنه هو المغوي والمحرك شياطين الإنس للإغواء كما قال { لاَغْوِيَنَّهُمْ } وقيل : إن { الشَّيْطَانِ } هنا هو جنس يراد به شياطين الإنس . والضمير في { أُمْنِيَّتِهِ } عائد على { الشَّيْطَانِ } أي في أمنية نفسه ، أي بسبب أمنية نفسه . ومفعول { أَلْقَى } محذوف لفهم المعنى وهو الشر والكفر ، ومخالفة ذلك الرسول أو النبيّ لأن الشيطان ليس يلقي الخير . ومعنى { فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ } أي يزيل تلك الشبه شيئاً فشيئاً حتى يسلم الناس ، كما قال { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً } و { يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَاتِهِ } أي معجزاته يظهرها محكمة لا لبس فيها { لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ } من تلك الشبه وزخارف القول { فِتْنَةً } لمريض القلب ولقاسيه { وَلِيَعْلَمَ } من أوتي العلم أن ما تمنى الرسول والنبيّ من هداية قومه وإيمانهم هو الحق . وهذه الآية ليس فيها إسناد شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، إنما تضمنت حالة من كان قبله من الرسل والأنبياء إذا تمنوا . .
وذكر المفسرون في كتبهم ابن عطية والزمخشري فمن قبلها ومن بعدهما ما لا يجوز وقوعه من آحاد المؤمنين منسوباً إلى المعصوم صلوات الله عليه ، وأطالوا في ذلك وفي تقريره سؤالاً وجواباً وهي قصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية ، فقال : هذا من وضع الزنادقة ، وصنف في ذلك كتاباً . وقال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، وقال ما معناه : إن رواتها مطعون عليهم وليس في الصحاح ولا في التصانيف الحديثية شيء مما ذكروه فوجب اطّراحه ولذلك نزهت كتابي عن ذكره فيه . والعجب من نقل هذا وهم يتلون في كتاب الله تعالى { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى } وقال الله تعالى آمراً لنبيه { قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ } وقال تعالى { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ } الآية وقال تعالى : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } الآية فالتثبيت واقع والمقاربة منفية . وقال تعالى { كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } وقال تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } وهذه نصوص تشهد بعصمته ، وأما من جهة المعقول فلا يمكن ذلك لأن تجويزه يطرق إلى تجويزه في جميع الأحكام والشريعة فلا يؤمن فيها التبديل والتغيير ، واستحالة ذلك معلومة . .
ولنرجع إلى تفسير بعض ألفاظ الآية إذ قد قررنا ما لاح لنا فيها من المعنى فقوله { مِن قَبْلِكَ } { مِنْ } فيه لابتداء الغاية و { مِنْ } في { مِن رَّسُولٍ } زائدة تفيد استغراق الجنس . وعطف { وَلاَ نَبِىّ } على { مِن رَّسُولٍ } دليل على المغايرة . وقد تقدم لنا الكلام على مدلوليهما فأغنى عن إعادته هنا ، وجاء بعد { إِلا } جملة ظاهرها الشرط وهو { إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ } وقاله الحوفي ، ونصوا على أنه يليها في النفي مضارع لا يشترط فيه شرط ، فتقول : ما زيد إلاّ بفعل كذا ، وما رأيت زيداً إلاّ بفعل كذا ، وماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله { وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ } أو يكون الماضي مصحوباً بقدر نحو : ما زيد إلاّ قد قام ، وما جاء بعد { إِلا } في الآية جملة شرطية ولم يلها مرض مصحوب بقد ولا عار منها ، فإن صح ما نصوا عليه تؤول على أن إذا جردت للظرفية ولا شرط فيها وفصل بها بين { إِلا } والفعل الذي هو { أُلْقِىَ } وهو فصل جائز فتكون إلاّ قد وليها ماض في التقدير ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل { إِلا } وهو { وَمَا أَرْسَلْنَا } وعاد الضمير في { * تمني } مفرداً وذكروا أنه إذا كان العطف بالواو عاد الضمير