@ 104 @ أنه ما أظهر البتة تغليظاً في القول ، ولا خشونة في الكلام ، علموا أنَّ هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك انتهى كلامه . وما قاله المحققون : صحيح ، لكنَّ زيادة ما للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية ، فضلاً عن مَنْ يتعاطى تفسير كلام الله ، وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملاً فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن يكون استفهاماً للتعجب . ثمّ إنَّ تقديره ذلك : فبأي رحمة ، دليل على أنّه جعل ما مضافة للرحمة ، وما ذهب إليه خطى من وجهين : أحدهما : أنه لا تضاف ما الاستفهامية ، ولا أسماء الاستفهام غير أي بلا خلاف ، وكم على مذهب أبي إسحاق . والثاني : إذا لم تصح الإضافة فيكون إعرابه بدلاً ، وإذا كان بدلاً من اسم الاستفهام فلا بدّ من إعادة همزة الاستفهام في البدل ، وهذا الرجل لحظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسور عليه . قول الزجاج في ما هذه ؟ إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين . .
{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } بين تعالى أن ثمرة اللين هي المحبة ، والاجتماع عليه . وأن خلافها من الجفوة والخشونة مؤد إلى التفرق ، والمعنى : لو شافهتهم بالملامة على ما صدر منهم من المخالفة والفرار لتفرّقوا من حولك هيبة منك وحياءً ، فكان ذلك سبباً لتفرّق كلمة الإسلام وضعف مادته ، وإطماعاً للعدو واللين والرفق ، فيكون فيما لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله تعالى . وقال تعالى في حق الكفار : { وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وفي وصفه صلى الله عليه وسلم ) في الكتب المنزلة أنه ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق . والوصفان قيل بمعنى واحد ، فجمعاً للتأكيد . وقيل : الفظاظة الجفوة قولاً وفعلاً . وغلظ القلب : عبارة عن كونه خلق صلباً لا يلين ولا يتأثر ، وعن الغلظ تنشأ الفظاظة تقدم ما هو ظاهر للحس على ما هو خاف ، وإنما يعلم بظهور أثره . .
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ } أمره تعالى بالعفو عنهم ، وذلك فيما كان خاصاً به من تبعة له عليهم ، وبالاستغفار لهم فيما هو مختص بحق الله تعالى وبمشاورتهم . وفيها فوائد تطييب نفوسهم ، والرفع من مقدارهم بصفاء قلبه لهم ، حيث أهلهم للمشاورة ، وجعلهم خواص بعد ما صدر منهم ، وتشريع المشاورة لمن بعده ، والاستظهار برأيهم فيما لم ينزل فيه وحي . فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به ، واختبار عقولهم ، فينزلهم منازلهم ، واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح . وجرى على مناهج العرب وعادتها في الاستشارة في الأمور ، وإذا لم يشاور أحداً منهم حصل في نفسه شيء ، ولذلك عز على عليّ وأهل البيت كونهم استبد عليهم في المشورة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، وفيما ذا أمر أن يشاورهم . قيل : في أمر الحرب والدنيا وقيل : في الدين والدنيا ما لم يرد نص ، ولذلك استشار في أسرى بدر . .
وظاهر هذه الأوامر يقتضي أنه أمر بهذه الأشياء ، ولا تدل على تريب زماني . وقال ابن عطية : أمر بتدريج بليغ ، أمر بالعفو عنهم فيما يخصه ، فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر باستغفار فيما لله ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلاً للاستشارة في الأمور انتهى . وفيه بعض تلخيص ، ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ ، ولكنْ هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض . أمر أولاً بالعفو عنهم ، إذ عفوه عنهم مسقط لحقه ، ودليل على رضاه صلى الله عليه وسلم ) عليهم ، وعدم مؤاخذته . ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم ، ويحصل لهم رضاه صلى الله عليه وسلم ) ورضا الله تعالى . ولما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذاناً بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة ، إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقداً فيه المودة والعقل والتجربة . والظاهر أن قوله : فاعف عنهم أمرٌ له بالعفو . وقيل : معناه سلني العفو عنهم لأعفو عنهم ، والمعفو عنه والمسؤول الاستغفار لأجله . قيل : قرارهم يوم أحد ، وترك إجابته ، وزوال الرّماة عن مراكزهم . وقيل : ما يبدون من هفواتهم وألسنتهم من السقطات التي لا يعتقدونها ، كمناداتهم من وراء الحجرات . وقول بعضهم : إنْ كان ابن عمتك وجر رداءه حتى أثر في عنقه ، وغير ذلك مما وقع منهم على سبيل الهفوة . ومن غريب النقول والمقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم : أن قوله تعالى : وشاورهم في الأمر ، أنه من المقلوب ، والمعنى : وليشاوروك في الأمر . وذكر المفسرون هنا جملة مما ورد في المشاورة من الآيات والأحاديث