6 - قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى } الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتا وهو صغير فجاء عمه إلى النبي A وقال : إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية { وابتلوا اليتامى } اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحفظهم أموالهم { حتى إذا بلغوا النكاح } أي : مبلغ الرجال والنساء { فإن آنستم } أبصرتم { منهم رشدا } فقال المفسرون يعني : عقلا وصلاحا في الدين وحفظا للمال وعلما بما يصلحه وقال سعيد بن جبير و مجاهد و الشعبي : لا يدفع إليه ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده .
والابتلاء يختلف باختلاف أحوالهم فإن كان ممن يتصرف في السوق فيدفع الولي إليه شيئا يسيرا من المال وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في السوق فيختبره في نفقة داره والإنفاق على عبيده وأجرته وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذا رأى حسن تدبيره وتصرفه في الأمور مرارا يغلب على القلب رشده دفع المال إليه .
واعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن الصغير وجواز دفع المال إليه بشيئين : بالبلوغ والرشد فالبلوغ يكون بأحد ( أشياء أربعة ) اثنان يشترك فيهما الرجال والسناء واثنان تختصان بالنساء : .
فما يشترك فيه الرجال والنساء أحدهما السن والثاني الاحتلام أما السن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة حكم ببلوغه غلاما كان أو جارية لما أخبرها عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز ابن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي اخبرنا سفيان عن عيينة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر Bهما قال : عرضت على رسول الله A عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني قال نافع : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال : هذا فرق بين المقاتلة والذرية وكتب أن يفرض لابن خمس عشرة في المقاتلة ومن لم يبلغها في الذرية وهذا قول أكثر أهل العلم .
وقال أبو حنيفة C تعالى : بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة .
وأما الاحتلام نفعني به نزول المني سواء كان بالاحتلام أو بالجماع أو غيرهما فإذا وجدت ذلك بعد استكمال تسع سنين من أيهما كان حكم ببلوغه لقوله تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } وقال النبي A لمعاذ في الجزية حين بعثه إلى اليمن : [ خذ من كل حالم دينارا ] .
وأما الإنبات : وهو نبات الشعر الخشن حول الفرج : فهو بلوغ في أولاد المشركين لما روي عن عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت ممن لم ينبت .
وهل يكون ذلك بلوغا في أولاد المسلمين ؟ فيه قولان أحدهما : يكون بلوغا كما أولاد الكفار والثاني : لا يكون بلوغا أنه يمكن الوقوف على مواليد المسلمين بالرجوع إلى آبائهم وفي الكفار لا يوقف على مواليدهم ولا يقبل قول آبائهم فيه لكفرهم فجعل الإنبات الذي هو إمارة البلوغ بلوغا في حقهم .
وأما ما يختص بالنساء : فالحيض والحبل فإذا حاضت المرأة بعد استكمال تسع سنين يحكم ببلوغها وكذلك إذا ولدت يحكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل .
وأما الرشد : فهو أن يكون مصلحا في دينه وماله فالصلاح في الدين هو أن يكون مجتنبا عن الفواحش والمعاصي التي تسقط العدالة والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذرا والتبذير : هو أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية أو لا يحسن التصرف فيها فيغبن في البيوع فإذا بلغ الصبي وهو مفسد في دينه وغير مصلح لماله دام الحجر عليه ولا يدفع إليه ماله ولا ينفذ تصرفه .
وعند أبي حنيفة Bه إذا كان مصلحا لماله زال الحجر عنه وإن كان مفسدا في دينه وإذا كان مفسدا لماله قال : لا يدفع إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة غير أن تصرفه يكون نافذا قبله والقرآن حجة لمن استدام الحجر عليه لأن الله تعالى قال : { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد والفاسق لا يكون رشيدا وبعد بلوغه خمسا وعشرين سنة وهو مفسد لماله بالاتفاق غير رشيد فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن .
وإذا بلغ وأونس منه الرشد زال الحجر عنه ودفع إليه المال رجلا كان أو امرأة تزوج أو لم يتزوج .
وعند مالك C تعالى : إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج فإذا تزوجت دفع إليها ولكن لا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ما لم تكبر وتجرب .
فإذا بلغ الصبي رشيدا وزال الحجر عنه ثم عاد سفيها نظر : فإن عاد مبذرا لماله حجر عليه وإن عاد مفسدا في دينه فعلى وجهين : أحدهما : يعاد الحجر عليه إذا بلغ بهذه الصفة والثاني : لا يعاد لأن حكم الدوام أوقى من حكم الابتداء .
وعند أبي حنيفة C تعالى : لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة Bهم ما روي عن هشام بن عروة عن أبية عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم فقال علي : لآتين عثمان فلأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك ( فقال الزبير : أنا شريكك في بيعتك فأتى علي عثمان وقال : احجر على هذا ) فقال الزبير : أنا شريكه فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه في الزبير فكان ذلك اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير في دفعه .
قوله تعالى : { ولا تأكلوها } يا معشر الأولياء { إسرافا } بغير حق { وبدارا } أي مبادرة { أن يكبروا } و { أن } في محل النصب يعني : لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذرا من أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم ثم بين ما يحل لهم من مالهم فقال : { ومن كان غنيا فليستعفف } أي ليمتنع من مال اليتيم لا يرزأه قليلا و كثيرا والعفة : الامتناع مما لا يحل { ومن كان فقيرا } محتاجا إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده فليأكل / بالمعروف .
أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر السجزي أخبرنا الإمام أبو سليمان الخطابي أخبرنا أبو بكر بن داسة التمار أخبرنا أبو داؤد السجستاني أخبرنا حميد بن مسعدة أن خالد بن الحرث حدثهم أخبرنا حسين يعني المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده Bه [ أن رجلا أتى رسول الله A فقال : إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم ؟ فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل ] .
واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء ؟ فذهب بعضهم إلى انه يقضي إذا أيسر وهو المراد من قوله { فليأكل بالمعروف } فالمعروف القرض أي : يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه فإذا أيسر قضاه وهو قول مجاهد و سعيد بن جبير قال عمر بن الخطاب Bه : إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة ما اليتيم : إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت .
وقال الشعبي : لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة .
وقال قوم : لا قضاء عليه .
ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف فقال عطاء و عكرمة : يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف ولا يكتسي منه ولا يلبس الكتان ولا الحلل ولكن ما سد الجوعة ووارى العورة .
وقال الحسن وجماعة : يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه فإما الذهب والفضة فلا فإن أخذ شيئا منه رده .
وقال الكلبي : المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم ولي له أن يأكل من ماله شيئا .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول : جاء رجل إلى ابن عباس Bهما قال : إن لي يتيما وإن له إبلا أفأشرب من لبن إبله ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنا جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب .
وقال بعضهم : المعروف أن يأخذ من جميع ماله بقدر قيامه وأجره عمله ولا قضاء عليه وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم .
قوله تعالى : { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } هذا أمر إرشاد ليس بواجب أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعدما بلغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة { وكفى بالله حسيبا } محاسبا ومجازيا وشاهدا