البيان الأول : في بحث الموضوع .
واعلم : أن السعادة الإنسانية لما كانت منوطة بمعرفة حقائق الأشياء وأحوالها بقدر الطاقة البشرية وكانت الحقائق وأحوالها متكثرة متنوعة تصدى الأوائل لضبطها وتسهيل تعليمها فأفردوا الأحوال الذاتية المتعلقة بشيء واحد أو بأشياء متناسبة ودونوها على حدة وعدوها علما واحدا وسموا ذلك الشيء أو الأشياء موضوعا لذلك العلم لأن موضوعات مسائله راجعة إليه .
فموضوع العلم : ما ينحل إليه موضوعات مسائله وهو المراد بقولهم في تعريفه : بما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية فصار كل طائفة من الأحوال بسبب تشاركها في الموضوع : علما منفردا ممتازا بنفسه عن طائفة متشاركة في موضوع آخر فتمايزت العلوم في أنفسها بموضوعاتها وهو تمايز اعتبروه مع جواز الامتياز بشيء آخر : كالغاية والمحمول .
وسلكت الأواخر أيضا هذه الطريقة الثانية في علومهم وذلك أمر استحسنوه في التعليم والتعلم وإلا فلا مانع عقلا من أن يعد كل مسألة علما برأسه ويفرد بالتعليم والتدوين ولا من أن يعد مسائل متكثرة غير متشاركة في الموضوع علما واحدا يفرد بالتدوين وإن تشاركت من وجه آخر ككونها متشاركة في أنها أحكام بأمور على أخرى فعلم أن حقيقة كل علم مدون : المسائل المتشاركة في موضوع واحد وأن لكل علم موضوعا وغاية كل منهما جهة وحدة تضبط تلك المسائل المتكثرة وتعد باعتبارها علما واحدا إلا أن الأولى جهة وحدة ذاتية الموضوع .
فيقال في تعريف المنطق مثلا : علم يبحث فيه عن أحوال المعلومات وتارة باعتبار الغاية فيقال في تعريفه : آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر .
ثم إن الأحوال المتعلقة بشيء واحد أو بأشياء متناسبة تناسبا معتدا به إما في أمر ذاتي : كالخط والسطح والجسم التعليمي المتشاركة في مطلق المقدار الذي هو ذاتي لها لعلم الهندسة أو في أمر عرضي : كالكتاب والسنة والإجماع والقياس المتشاركة في كونها موصلة إلى الأحكام الشرعية لعلم أصول الفقه فتكون تلك الأحوال من الأعراض الذاتية التي تلحق الماهية من حيث هي لا بواسطة أمر أجنبي .
وأما التي جميع مباحث العلم راجعة إليها فهي : إما راجعة إلى نفس الأمر الذي هو الواسطة كما يقال في الحساب : العدد إما زوج أو فرد أو إلى : جزئي تحته كقولنا : الثلاثة فرد وكقولنا في الطبيعي : الصورة تفسد وتخلف بدلا عنه أو إلى : عرض ذاتي له كقولنا : المفرد إما أول أو مركب وإما العرض الغريب وهو ما يلحق الماهية بواسطة أمر عجيب إما : خارج عنها أعم منها أو أخص .
فالعلوم لا تبحث عنه فلا ينظر المهندس في أن الخط المستدير أحسن أو المستقيم ولا في أن الدائرة نظير الخط المستقيم أو ضده لأن الحسن والتضاد غريب عن موضوع علمه وهو : المقدار فإنهما يلحقان المقدار لا لأنه مقدار بل لوصف أعم منه كوجوده أو كعدم وجوده .
وكذا الطبيب لا ينظر في أن الجرح مستدير أم غير مستدير لأن الاستدارة لا تلحق الجسم من حيث هو جريح بل لأمر أعم منه كما مر .
وإذا قال الطبيب : هذه الجراحة مستديرة والدوائر أوسع الأشكال فيكون بطيء البرء لم يكن ما ذكره من علمه .
ثم اعلم : أن موضوع علم يجوز أن يكون موضوع علم آخر وأن يكون أخص منه أو أعم وأن يكون مباينا عنه لكن يندرجان تحت أمر ثالث وأن يكون مباينا له غير له مندرجين تحت ثالث لكن يشتركان بوجه دون وجه ويجوز أن يكونا متباينين مطلقا فهذه : ستة أقسام