الترشيح الثاني : في الشرح وبيان الحاجة إليه والأدب فيه .
واعلم : أن كل من وضع كتابا إنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح وإنما احتيج إلى الشرح لأمور ثلاثة .
الأمر الأول : كمال مهارة المصنف فإنه لجودة ذهنه وحسن عبارته يتكلم على معان دقيقة بكلام وجيز كافيا في الدلالة على المطلوب وغيره ليس في مرتبته فربما عسر عليه فهم بعضها أو تعذر فيحتاج إلى زيادة بسط في العبارة لتظهر تلك المعاني الخفية ومن ها هنا شرح بعض العلماء تصنيفه .
الأمر الثاني : حذف بعض مقدمات الأقيسة اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر أو أهمل ترتيب بعض الأقيسة فأغفل علل بعض القضايا فيحتاج الشارح إلى أن يذكر المقدمات المهملة ويبين ما يمكن بيانه في ذلك العلم ويرشد إلى أماكن فيما لا يليق بذلك الموضع من المقدمات ويرتب القياسات ويعطي علل ما لم يعط المصنف .
الأمر الثالث : احتمال اللفظ لمعان تأويلية أو لطافة المعنى عن أن يعبر عنه بلفظ يوضحه أو للألفاظ المجازية واستعمال الدلالة الالتزامية فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه وقد يقع في بعض التصانيف ما لا يخلو البشر عنه من السهو والغلط والحذف لبعض المهمات وتكرار الشيء بعينه بغير ضرورة إلى غير ذلك فيحتاج أن ينبه عليه .
ثم إن أساليب الشرح على : ثلاثة أقسام .
الأول : الشرح : بقال أقول ( كشرح المقاصد ) و ( شرح الطوالع ) للأصفهاني و ( شرح العضد ) .
وأما المتن : فقد يكتب في بعض النسخ بتمامه وقد لا يكتب لكونه مندرجا في الشرح بلا امتياز .
والثاني : الشرح : بقوله ( كشرح البخاري ) لابن حجر والكرماني ونحوهما .
وفي أمثاله : لا يلتزم المتن وإنما المقصود : ذكر المواضع المشروحة ومع ذلك قد يكتب بعض النساخ متنه تماما إما : في الهامش وإما : في المسطر فلا ينكر نفعه .
والثالث : الشرح مزجا ويقال له : شرح ممزوج يمزج فيه عبارة المتن والشرح ثم يمتاز إما بالميم والشين وإما بخط يخط فوق المتن وهو طريقة أكثر الشراح المتأخرين من المحققين وغيرهم لكنه ليس بمأمون عن الخلط والغلط .
ثم إن من آداب الشارح وشرطه : أن يبذل النصرة فيما قد التزم شرحه بقدر الاستطاعة ويذب عما قد تكفل إيضاحه بما يذب به صاحب تلك الصناعة ليكون شارحا غير ناقض وجارح ومفسرا غير معترض اللهم إلا إذا عثر على شيء لا يمكن حمله على وجه صحيح فحينئذ ينبغي أن ينبه عليه بتعريض أو تصريح متمسكا بذيل العدل والإنصاف متجنبا عن الغي والاعتساف لأن الإنسان محل النسيان والقلم ليس بمعصوم من الطغيان فكيف بمن جمع المطالب من محالها المتفرقة ؟ .
وليس كل كتاب ينقل المصنف عنه سالما من العيب محفوظا له عن ظهر الغيب حتى يلام في خطئه فينبغي أن يتأدب عن تصريح الطعن للسلف مطلقا ويكني بمثل : قيل وظن ووهم واعترض وأجيب وبعض الشراح والمحشى أو بعض الشروح والحواشي ونحو ذلك من غير تعيين كما هو دأب الفضلاء من المتأخرين فإنهم تأنفوا في أسلوب التحرير وتأدبوا في الرد والاعتراض على المتقدمين بأمثال ما ذكر تنزيها لهم عما يفسد اعتقاد المبتدئين فيهم وتعظيما لحقهم وربما حملوا هفواتهم على الغلط من الناسخين لا من الراسخين وإن لم يمكن ذلك قالوا : لأنهم لفرط اهتمامهم بالمباحثة والإفادة لم يفرغوا لتكرير النظر والإعادة وأجابوا عن لمز بعضهم بأن ألفاظ كذا وكذا ألفاظ فلان بعبارته بقولهم : إنا لا نعرف كتابا ليس فيه ذلك فإن تصانيف المتأخرين بل المتقدمين لا تخلو عن مثل ذلك لا لعدم الاقتدار على التغيير بل حذرا عن تضييع الزمان فيه وعن مثالبهم : بأنهم عزوا إلى أنفسهم ما ليس لهم بأنه إن اتفق فهو من توارد الخواطر كما في تعاقب الحوافر على الحوافر