الإشارة الرابعة : في اختلاط علوم الأوائل والإسلام .
اعلم واعلم : أن علوم الأوائل كانت مهجورة في عصر الأموية ولما ظهر آل عباس كان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني : أبو جعفر المنصور .
وكان - C تعالى - مع براعته في الفقه مقدما في علم الفلسفة وخاصة في النجوم محبا لأهلها .
ثم لما أفضت الخلافة إلى السابع : عبد الله المأمون ابن الرشيد تمم ملا بدأ به جده فأقبل على طلب العلم في مواضعه واستخراجه من معادنه بقوة نفسه الشريفة وعلو همته المنيفة فداخل ملوك الروم وسألهم : وصلة ما لديهم من كتب الفلاسفة فبعثوا إليه منها بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو وبقراط وجالينوس وإقليدس وبطلميوس وغيرهم وأحضر لها مهرة المترجمين فترجموا له على غاية ما أمكن ثم كلف الناس قراءتها ورغبهم في تعلمها إذ المقصود من المنع : هو إحكام قواعد الإسلام ورسوخ عقائد الأنام وقد حصل وانقضى على أن أكثرها مما لا تعلق له بالديانات فنفقت له سوق العلم وقامت دولة الحكمة في عصره وكذلك سائر الفنون فأتقن جماعة من ذوي الفهم في أيامه كثيرا من الفلسفة ومهدوا أصول الأدب وبينوا منهاج الطلب .
ثم أخذ الناس يزهدون في العلم ويشتغلون عنه بتزاحم الفتن تارة وبجمع الشمل أخرى إلى أن كاد يرتفع جملة وكذا شأن سائر الصنائع والدول فإنها تبتدئ قليلا قليلا ولا تزال يزيد حتى يصل إلى غاية هي منتهاه ثم يعود إلى النقصان فيؤول أمره إلى الغيبة في مهاوي النسيان .
والحق : أن أعظم الأسباب في رواج العلم وكساده هو رغبة الملوك في كل عصر وعدم رغبتهم . - فإنا لله وإنا إليه راجعون - . ( 1 / 38 )