تقدم في القسم الأول من هذا الكتاب أن علماء الملة الإسلامية في العلوم الشرعية والعقلية أكثرهم من العجم وقليل من منهم من العرب فالأعاجم هم سباق حلبة العلوم وفرسان معركة المنطوق والمفهوم تعاطوا من دنان الحكم أصفى الحميا وتناولوا من غوامض العلوم ما كان بالثريا ولكن الله تعالى بعث ( 3 / 214 ) في الأميين رسولا عربيا نسخ جميع الكتب والأديان وجاء الناس باليمن والإيمان وأخذ بنواصي كافة الأمم وألزم طاعته على رقاب العرب والعجم وهذا الفخر كاف للعرب العرباء واف في باب العلياء لا يدانيهم فيه أحد من الأعاجم ولا يبلغ شأوه فرد من الأعاظم .
ولما ورد الإسلام قبل الهند بالإيران والتوران وكشف نوره الأتم أغطية الظلم عن هذه البلدان نشأت العلوم الإسلامية سابقا بتلك البلاد وترعرعت بها أغصان هذا الشجر المياد .
وأما الهند : فقد فتح في عهد الوليد بن عبد الملك على يد محمد بن قاسم الثقفي سنة اثنتين وتسعين الهجرية وبلغت راياته المظلة على الفوج من حدود السند إلى أقصى قنوج سنة خمس وتسعين وبعد ما عاد ولاة الهند إلى أمكنتهم وبقي الحكام من الخلفاء المروانية والعباسية ببلاد السند وقصد السلطان محمود الغزنوي - أواخر المائة الرابعة - غزو الهند وأتى مرارا وغلب وأخذ الغنائم وانتزع السند من الحكام الذين كانوا من قبل القادر بالله بن المقتدر العباسي لكن السلطان محمود لم يقم بالهند وكان أولاده متصرفين من غزنين إلى لاهور حتى استولى السلطان : معز الدين سام الغوري على غزنين وأتى لاهور وقبض على خسرو - ملك خاتم الملوك الغزنوية - وضبط الهند وجعل دهلي دار الملك سنة تسع وثمانين وخمسمائة ه ومن هذا التاريخ إلى آخر المائة الثانية عشر كانت ممالك الهند في يد السلاطين الإسلامية .
ولما انتشر الإسلام في هذه البلاد وطلعت شموسه البازعة على الأغوار والأنجاد وعلت الكلمة الطيبة في هذه الغبراء واجتمعت بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ظهر بها جمع من العلماء والأدباء الإسلامية الناثرين على بسط الأزمنة لآلي من السحب الأقلامية لكن لم يعمد أحد منهم إلى ضبط تراجمهم ولم يجتن جان زهرا من حواجمهم إلا نزرا يسيرا ولذلك لا ترى من ( 3 / 215 ) السلف والخلف كتابا مستقلا في هذا الباب لا على طريق الإيجاز ولا على سبيل الإطناب ألا ترى أن ( عين العلم ) كتاب مفيد مصنفه - على الأصح - من أهل الهند كما ذكر ذلك علي القاري في شرحه له على ما صرح به الحافظ : ابن حجر العسقلاني - C - ومع وجود مثل هذا الكتاب لم يعرف واحد من مؤرخي الهند خبره وما أبقى الزمان الجائر - مع إبقاء الكتاب - أثره ومن ثم اندرست آثار جم غفير من العلماء الأجلاء واندثرت معالم كانت أفلاذ كبد الدهناء : .
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر .
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والخطوب الزواجر .
وبالجملة : قد خرج من أرض الهند جماعة كبيرة من العلماء الفضلاء وطلع من بلادها طائفة من النبلاء الأدباء قديما وحديثا وإن لم يسر بذكرهم الركبان سيرا حثيثا وقد كنت يخطر ببالي أن أجمع لتراجمهم كتابا مستقلا لا يغادر صغيرا ولا كبيرا وأرتب لذكرهم سفرا مفردا يثبت لهم ذكرا جميلا وفضلا كثيرا لكن عاقني عن ذلك كثرة الأشغال وتشتت البال من تغير الأحوال حتى لم تتيسر تلك الأمنية إلى الآن فاقتصرت في تذكارهم في هذا الكتاب على ما وجدته في كتاب : ( سبحة المرجان ) مع زيادة يسيرة من تراجم المتأخرين الذين هم من العلم والفضل بمكان مكين فأقول وبالله أحول وأصول :