اعلم : أنه لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع . لأن في كل علم منفعة ما في أمر المعاد أو المعاش أو الكمال الإنساني وإنما يتوهم في بعض العلوم أنه ضار أو غير نافع لعدم اعتبار الشروط التي تجب مراعاتها في العلم والعلماء فإن لكل علم حدا لا يتجاوزه .
فمن الوجوه المغلطة أن يظن بالعلم فوق غايته كما يظن بالطب أنه يبرئ من جميع الأمراض وليس كذلك فإن منها مالا يبرأ بالمعالجة .
ومنها : أن يظن بالعلم فوق مرتبته في الشرف كما يظن بالفقه أنه أشرف العلوم على الإطلاق وليس كذلك فإن علم التوحيد أشرف منه قطعا .
ومنها : أن يقصد بالعلم غير غايته كمن يتعلم علما للمال أو الجاه فالعلوم ليس الغرض منها الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق على أنه من تعلم علما للاحتراف لم يأت عالما إنما جاء شبيها بالعلماء ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا ونطقوا به لما بلغهم ( 1 / 106 ) بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم وقالوا : ( كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل فيكون سببا لارتفاعه ومن ههنا هجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها .
ومنها : أن يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله كما اتفق في علم الطب فإنه كان في الزمن القديم حكمة موروثة عن النبوة فصار مهانا لما تعاطاه اليهود فلم يشرفوا به بل زال العلم بهم . وما أحسن قول أفلاطون : ( إن الفضيلة تستحيل في النفس الردية رذيلة كما يستحيل الغذاء الصالح في بدن السقيم إلى الفساد ) . ومن هذا القبيل الحال في علم أحكام النجوم فإنه لم يكن يتعاطاه إلا العلماء به للملوك ونحوهم فرذل حتى صار لا يتعطاها غالبا إلا جاهل يروج أكاذيبه .
ومنها : أن يكون العلم عزيز المنال رفيع المرقى قلما يتحصل غايته ويتعاطاه من ليس من أهله لينال بتمويهه عرضا كما اتفق في علوم الكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات . والعجب ممن يقبل دعوى من يدعي علما من هذه العلوم فإن الفطرة قاضية بأن من يطلع على ذبابة من أسرار هذه العلوم يكتمها عن والده وولده .
ومنها : ذم جاهل متعالم لجهله إياه فإن من جهل شيئا أنكره وعاداه كما قيل : المرء عدو لما جهله . أو ذم جاهل متعالم لتعصبه على أهله بسبب من الأسباب فإنك تسمعهم يقولون بتحريم المنطق مع كونه ميزان العلوم وتحريم الفلسفة مع أنها عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وليس فيها ما ينافي الشرع المبين والدين المتين غير المسائل اليسيرة التي ( 1 / 107 ) أوردها ( أصحاب التهافت ) وليس في كتب الحنفية القول بتحريم المنطق غير الأشباه فإن كان صاحبه رآه كان المناسب أن ينقل وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن رآه كان المناسب أن ينقل . وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن قبيل سد الذرائع وصرف الطبائع إلى علوم الشرائع . ولعل المراد من منع الأئمة عن تعليم بعض العلوم وتعلمه تخليص أصحاب العقول القاصرة من تضييع العمر وتوزيبه بلا فائدة فإن في تعليم أمثاله ليس له عائدة وإلا فالعلم إن كان مذموما في نفسه على زعمهم فإنه لا يخلو تحصيله عن فائدة أقلها رد القائلين به قال الغزالي في ( الإحياء ) : ( ( إن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة .
الأول : أن يكون مؤديا إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره كما يذم علم السحر والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن له .
الثاني : أن يكون مضرا لصاحبه في غالب الأمر كعلم النجوم .
الثالث : الخوض في علم لا يستقل الخائض فيه فإنه مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها وخفيها قبل جليها وكالبحث عن الأسرار الإلهية . . ) ) إلى آخر ما قال وأطال في بيان هذه الأسباب الثلاثة فإن شئت الزيادة فارجع إليه فإنه ينفعك نفعا عظيما . ( 1 / 108 )