وفي الإرشادِ لإمامِ الحرمَيْن : العَقْلُ من العلومِ الضروريّة والدليلُ على أنّه من العلومِ اسْتِحالةُ الاتِّصافِ به مع تقديرِ الخُلُوِّ من جميعِ العلومِ وليس العَقلُ من العلومِ النَّظريَّة ؛ إذ شَرْطُ النَّظَرِ تعَذُّرُ العَقْل وليس العَقلُ جميعَ العلومِ الضروريّة ؛ فإنّ الضَّريرَ ومن لا يُدرِكُ يتَّصِفُ بالعَقْلِ مع انْتِفاءِ علومٍ ضَروريّةٍ عنه فبانَ بهذا أن العَقلَ من العلومِ الضروريّةِ وليسَ كلَّها . انتهى . وقال بعضُهم : اختلفَ الناسُ في العَقلِ من جِهاتٍ : هل له حقيقةٌ تُدرَكُ أو لا ؟ قَوْلان وعلى أنّ له حقيقةً هل هو جَوْهَرٌ أو عَرَض ؟ قولان وهل محَلُّه الرأسُ أو القَلبُ ؟ قَولان وهل العقولُ مُتفاوِتَةٌ أو مُتساوِيَة ؟ قَولان وهل هو اسمُ جِنسٍ أو جِنسٌ أو نَوْعٌ ؟ ثلاثةُ أقوالٍ فهي أَحَدَ عَشَرَ قَولاً ثمّ القائِلونَ بالجَوْهَرِيَّةِ أو العرَضِيَّةِ اختلَفوا في اسمِه على أَقْوَالٍ أَعْدَلُها قولانِ فعلى أنّه عَرَضٌ هو مَلَكَةٌ في النَّفسِ تَسْتَعِدُّ بها للعلومِ والإدراكاتِ وعلى أنّه جَوْهَرٌ هو جَوْهَرٌ لَطيفٌ تُدرَكُ به الغائِباتُ بالوَسائِط والمَحْسوساتُ بالمُشاهَدات خَلَقَه الله تَعالى في الدِّماغ وجعلَ نورَه في القَلْبِ نَقَلَه الأَبْشِيطِيُّ وقال ابنُ فَرْحُون : العَقلُ نُورٌ يُقذَفُ في القَلبِ فيسْتَعِدُّ لإدراكِ الأشياءِ وهو من العلومِ الضروريّة . ولهم كلامٌ في العَقلِ غيرُ ما ذَكَرْنا لم نورِدْه هنا قَصْدَاً للاختِصار قالوا : وابتداءُ وجودِه عند اجْتِنانِ الولَدِ ثمّ لا يزالُ ينمو ويزيدُ إلى أن يَكْمُلَ عند البُلوغ وقيل : إلى أن يَبْلُغَ أربعينَ سَنَةً فحينَئِذٍ يَسْتَكمِلُ عَقْلَه كما صَرَّحَ به غيرُ واحدٍ وفي الحديث : " ما من نَبِيٍّ إلاّ نُبِّئَ بعدَ الأرْبَعين " وهو يُشيرُ إلى ذلك وقولُ ابنِ الجَوْزِيِّ - إنّه مَوْضُوعٌ لأنّ عيسى نُبِّئَ ورُفِعَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سنةً كما في حديثٍ فاشْتِراطُه الأرْبَعين ليسَ بشَرطٍ - مَرْدُودٌ لكونِه مُستَنِداً إلى زَعْمِ النَّصارى والصحيحُ أنّه رُفِعَ وهو ابنُ مائةٍ وعِشرين وما وردَ فيه غير ذلك فلا يصِحُّ وأيضاً كلُّ نبيٍّ عاشَ نِصفَ عُمْرِ الذي قبلَه وأنّ عيسى عاشَ مائةً وعِشرينَ ونَبِيُّنا عاشَ نِصفَها كذا في تَذْكِرَةِ المَجْدولِيِّ ج : عُقولٌ . وقد عَقَلَ الرجلُ يَعْقِلُ عَقْلاً ومَعْقُولاً وهو مصدرٌ وقال سيبويه : هو صِفةٌ وكان يقول : إنّ المًصدرَ لا يأتي على وزنِ مَفْعُولٍ البَتَّةَ وَيَتَأوَّلُ المَعْقولَ فيقول : كأنّه عُقِلَ له شيءٌ أي حُبِسَ عليه عَقْلُه وأُيِّدَ وشُدِّدَ قال : ويُستَغنى بهذا عن المَفْعَلِ الذي يكونُ مَصْدَراً كذا في الصِّحاح والعُباب وأنشدَ ابنُ بَرِّيّ : .
فقد أفادَتْ لهُم حِلْماً ومَوْعِظَةً ... لِمَن يكونُ له إرْبٌ وَمَعْقُولُ