وأَدْرَكَ الشيء أَيضاً : إِذا فَنىَ حكاهُ شَمِرٌ عن اللّيثِ قال : ولم أَسْمَعْه لغيرِه وبه أَوّل قوله تعالى : " بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُم " أي فَنيَ علمُهُم في الآخرة قالَ الأزهري : وهذا غيرُ صَحِيح في لُغَةِ العَرَبِ وما علمتُ أَحَداً قال : أدْرَكَ الشيء : إِذا فَنيَ فلا يُعَرَّجُ على هذا القَوْلِ ولكن يُقال : أَدْرَكَت الثِّمارُ : إِذا بَلَغَت إِناها وانْتَهي نُضْجُها . قلتُ : وهذا الذي أَنْكَرَه الأزهري على اللَّيثِ فقد أَثْبتَه غيرُ واحدٍ من الأَئِمّة وكلامُ العربِ لا يَأْباه ؛ فإِن انْتِهاءَ كُلِّ شيءٍ بحَسَبِه فإذا قالوا أَدْرَكَ الدقيقُ فبأي شيءٍ يُفَسَّرُ ؟ أًيُقال إِنّه مثلُ إِدراكِ الثِّمارِ والقِدْرِ . وإِنما يُقال انْتَهي إِلى آخِرِه ففَنيَ قال ابنُ جِنّي في الشّواذِّ : أَدْرَكْتُ الرجلَ وأدّرَكتْهُ وأدَّرَكَ الشيء : إِذا تَتابَعَ ففَني وبه فُسِّر قولُه تعالَى : " إِنّا لَمُدْرَكُونَ " وأَيضاً فإِنّ الثِّمارَ إِذا أَدْرَكَتْ فقد عُرضت للفَناءِ وكذلك القِدْرُ وكُلُّ شيءٍ انْتَهى إِلى حَدِّه فالفناءُ من لَوازِمِ مَعْنَى الإدْراكِ ويُؤَيِّدُ ذلك تَفْسِيرُ الحَسَنِ للآَية على ما يَأْتِي فتأَمَّلْ . وقولُه تعالى : " حَتَّى إِذا ادّارَكُوا فيها جميعاً " أَصْلُه تَدَارَكُوا فأُدْغِمَت التاءُ في الدّالِ واجْتُلِبَتْ الأَلِفُ ليَسلَمَ السكونُ . وقولُه تعالى : " قُل لا يَعْلَمُ مَنْ في السَّماواتِ والأَرْضِ الغَيبَ إِلاّ اللّهُ وما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبعَثُون بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُم في الآخِرَة " قال الحَسَنُ فيما رُوِىَ عنه : أي جَهِلُوا عِلْمَها ولا عِلْمَ عِنْدَهُم من أَمْرِها كذا في النّسَخِ وفي بعضِ الأصولِ في أَمْرِها قال ابنُ جِنِّي في المُحْتَسب : معناه أَسْرَعَ وخَفَّ فلم يَثْبُتْ ولم تَطْمَئنّ لليَقِينِ به قَدَمٌ . قلتُ : فهذا التفسيرُ تَأْيِيدٌ لِمَا نَقَلَه شَمِرٌ عن اللّيثِ قال الأزهري . قرَأَ شُعْبَةُ ونافعٌ " بل ادّارَكَ " وقرأَ أَبو عَمْرو " بَلْ أَدْرَكَ " وهي قِراءَةُ مجاهِدٍ وأبي جَعْفَرٍ المَدَني ورُوِى عن ابنِ عَبّاسٍ أَنّه قَرَأَ " بَلَى آأَدْرَكَ عِلْمُهُم " ؟ يَستَفْهِمُ ولا يُشَدِّدُ فأَمّا من قَرَأَ " بَلِ ادّارَكَ " فإِنّ الفَرّاءَ قال : مَعْناه لغة في تَدارَكَ أي تَتَابَعَ عِلْمُهُمِ في الآخِرَةِ يُريدُ بعِلْمِ الآخِرَةِ تَكُونُ أو لا تَكُون ولذلك قال : " بَلْ هُم في شَك مِنْها بَلْ هُم مِنْها عَمون " قال : وهي في قراءةِ أُبَي أَمْ تَدَارَكَ والعَرَبُ تجْعَلُ بَلْ مكانَ أَمْ وأَمْ مكانَ بَلْ إِذا كانَ في أَوَّل الكَلِمةِ اسْتِفْهامٌ مثل قَوْلِ الشّاعِرِ : .
فواللّه ما أَدْرِي أَسَلْمَى تَغَوَّلَت ... أَم البُومُ أَمْ كل إِليَ حَبِيبُ مَعْنَى أَمْ بَلْ وقال أَبو مُعاذٍ النَّحْوِيّ : ومَنْ قرأَ : " بَلْ أَدْرَكَ " و " بَلِ ادّارَكَ " فمعناهُما واحِدٌ يَقُول : هم عُلماءُ في الآخِرَةِ كقوله تَعالَى : " أسْمِعْ بِهِم وأَبْصِر يَوْمَ يأتونَنَا " ونحو ذلك قال السدِّيُّ - في تَفْسِيرِه - قال : اجْتَمَع عِلْمُهُم في الآخِرَةِ ومعناها عندَه أي عَلِمُوا في الآخِرَةِ أَنّ الذي كانوا يُوعَدُونَ به حَقٌّ وأَنْشَدَ للأَخْطَلِ : .
وأَدْرَكَ عِلْمِي في سَواءَةَ أَنَّها ... تُقِيمُ على الأَوْتارِ والمَشْرَبِ الكَدْرِ