الثاني : لا يَخْتَصُّ هذا الإِبْدالُ بأَراقَ كما تَوَهَّمَه جماعةٌ بل قالَ شُرّاحُ الفَصِيحِ وأَكثرُ شُرّاحٍ الكِتاب وغيرُهم : إِنَّه جاءَ في الأفْعالِ كُلًّها مُعْتَلِّها وغَيرِ مُعْتَلِّها وقالُوا : العَرَبُ تُبدِلُ من الهَمْزَةِ هاءً ومن الهاءِ همْزَةً للقُربِ الذي بَينَهُما من حَيثُ إِنَّهما من أَقْصى الحَلْقِ فجازَ أَنْ يُبدَلَ كُلَّ منهما من صاحِبِه وذَكَرُوا وُجوهاً من الإِبْدالِ خارِجَةً عن بَحْثِنا والذي عندِي أَنَّ هذا الإِبْدالَ إِنَّما يَصِحُّ في المُعَتَلِّ من الأَفْعال خاصَّةً كأَراقَ ؛ لأَنَّهم إِنَّما مَثَّلُوا بأَشْباهِه قالوا : إِنَّه سُمِعَ من العربِ قولُهم في أراح ماشِيتَه هَراحَ وفي أَراد : هَرادَ وفي أَقامَ : هَقامَ ولم يَذْكُرُوه في شَيءٍ من الصَّحِيحِ أَصْلاً لم يَقُولُوا في أَعْلَم مثَلاً هَعْلَم ولا في أَكْرَم هَكْرَم فالظّاهِرُ اخْتِصاصُه به وأَنَّ كلامَهم عامٌّ فلا يُعتَدُّ به . قلتُ : وقد ذَكَر الأَزْهرِيُّ : هَنَرتُ النّارَ وأَنَرتُها وَسَبَقَ للمصَنِّفِ أَنَرتُ الثَّوْبَ وهَنَرتُه ونَقَلَ أَبو زَيْدٍ قولَهم : أَنْهَأْتُ اللَّحْمَ قال : والأَصْلُ أَنَأته بوَزْنِ أَنَعْتُه فيُنْظَر هذا مع كلامِ شَيخِنا هذا غايَةُ ما تَنْتَهِي إِليه عنايَةُ المُتأَمِّل في بَحْثِ هذا المَقامِ وتَحْقِيقِه على أَكْمَلِ المَرامِ والله حَكِيمٌ عَلام . والمُهْرَقُ كمُكْرَم : الصَّحِيفَةُ عن الأَصْمَعِيِّ وزادَ اللَّيثُ : البَيضاء يُكْتَبُ فيها قال الأَصْمَعِيُّ : هو فارسي مُعَرَّبٌ قالَ الصّاغانِيّ : تعرِيبُ مَهْرَهْ وقال غيره : المُهْرَقُ : ثوبٌ حَرِيرٌ أَبْيَضُ يُسقَى الصَّمغَ ويُصْقَلُ ثُمّ يكْتَب فيه وفي شَرحِ مُعَلَّقَةِ الحارِثِ بنِ حِلِّزَةَ : كانُوا يَكْتُبونَ فيها قبل القَراطِيسِ بالعِراقِ وهو بالفارسِيَّة مُهْرَه كَرد وِإنَّما قِيلَ له ذلِكَ لأنَّ الذي يُصْقَلُ بها يُقال لها بالفارِسِيَّةِ : مهره وفي شرحِ الحَماسَةِ : تكَلمُوا بها قَدِيماً وقد يُخَصّ بكتابِ العَهْدِ قالَ حَسّان Bه : .
كم للمَنازِلِ من شَهْر وأَحْوالِ ... كما تَقادَمَ عَهْدُ المُهْرَقِ البالِي مَهارِقُ قالَ الحارِثُ بنُ حِلَزَةَ : .
" آياتُها كمَهارِقِ الحَبَشِ وقالَ الأَعْشَى : .
رَبِّى كَرِيمٌ لا يُكَدِّر نَعْمَةً ... فإذا تُنُوشِدَ في المَهارِقِ أَنْشَدَا أرادَ بالمَهَارِقِ الصَّحائِفَ . ومن المَجاز : المُهْرَقُ : الصَّحْراءُ المَلْساء جمعُه مَهارِقُ وهي الصَّحارَى والفَلَواتُ تَشْبِيهاً لها بالصَّحائِفِ قال ذُو الرُمَّةِ : .
" بيَعْملةٍ بين الدّجَى والمَهارِقِ أرادَ الفَلَواتِ وشاهِدُ المُفْرَدِ قولُ أَوْسِ بنِ حَجَر : .
على جازِعٍ جَوْزِ الفَلاةِ كأَنَّه ... إذا ما عَلاَ نَشْزاً من الأَرْضِ مُهْرَقُ وحَكَى بعضُهم : مَطَر مُهْرَوْق كما في الصِّحاحِ أي صهَيِّبٌ وقال ابنُ سيدَه : اهْرَوْرَقَ الدَّمْعُ والمَطَرُ : جَرَيا قال : ولَيس من لفظ هَراقَ ؛ لأَنَّ هاءَ هَراقَ مبدَلةٌ والكلمةُ مُعْتَلَّةٌ وأَمّا هَرَوْرَقَ فإنه - وِإنْ لم يُتَكَلَّم به إلاَّ مَزِيدا - مُتَوَهَّمٌ من أَصل ثُلاثي صحيح لا زيادَةَ فيه ولا يَكونُ من لَفْظ أَهْراقَ ؛ لأَنَّ هاءَ أَهْراقَ زائِدَةٌ عوضٌ من حَركَةِ العَين على ما ذَهَبَ إليه سِيبَوَيْه في أَسْطاعَ . قالَ الأَزْهَرِيُّ : ويُقال : هَرِّقْ عَلَى خَمْرِكَ : أي تَثَبَّت قالَ رُؤبَة : .
" يا أَيُّها الكاسِرُ عينَ الأَغْضَنِ .
" والقائِلُ الأَقْوالَ ما لم يلقَنِي .
" هَرَقْ عَلَى خَمْرِكَ أَو تَبَيَنِ والمُهْرُقانُ كمُسحُلانٍ أي بِضَمِّ الأَوَّلِ والثّالِثِ عن أبي عَمْرو . وقِيلَ : هو المَهْرَقانُ مثالُ مَلْكَعان قال الصّاغانيّ : وهو الأَصَحُّ أي بِفَتْحِ الأَوَّلِ والثّالِثِ .
ويُقال : هو بضَمِّ الميمِ وفتحِ الرّاءِ من أَسماءِ البَحْرِ قال أَبو عَمْرٍو : وهو اليَمّ والقَلَمَّسُ والنَّوْفَلُ والمهرقان والدَّأْماءُ أَو هو ساحِلُ البَحْرِ وهو الموضعُ الذي فاضَ فيهِ الماءُ ثم نَضَبَ عنه فبَقِىَ فيه الوَدَعُ قال ابنُ مُقْبِلٍ :