وقال الجوهريّ في مَعَنى لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ أَي ما أَصابَك من الدَّهْر فاللهُ فاعِلُه لَيْس الدَّهْر فإذا شتَمْت به الدَّهْرَ فكأَنَّك أَردْتَ به اللهَ ؛ لأَنهم كانوا يُضِيفون النَّوَازِلَ إلى الدَّهْرِ فقيل لهم : لا تَسُبُّوا فاعِلَ ذلك بكم فإن ذلِك هُو الله تعالى . ونقَلَ الأَزْهَرِيّ عن أبي عُبَيْد في قوله " فإن الله هو الدَّهْر " مِمَّا لا يَنْبَغِي لأحَد من أَهْلِ الإِسْلام أَن يَجْهَل وَجْهَه وذلك أن المُعَطِّلة يَحتَجُّون به على المُسْلِمِين قال : ورأَيتُ بعضَ مَنْ يُتَّهم بالزَّنْدَقة والدَّهْرِيّة يَحْتَجُّ بهذا الحَدِيث ويقول : ألاَ تَراه يقول " فإنَّ اللَه هُوَ الدَّهْر " . قال : فقلُتْ : وهل كان أحَدٌ يَسُبّ الله في آبادِ الدَّهْر . وقد قال الأعْشَى في الجَاهِلّية : .
اسْتَأْثَر اللهُ بالوفاءِ وبِالْ ... حَمْد ووَلَّى المَلامَةَ الرَّجُلاَ قال : وتأْوِيلُه عندي أَنَّ العَرَب كانَ شأْنُها أَن تَذُمَّ الدّهْرَ وتُسُبَّه عند الحوادِثِ والنوازِلِ تَنْزِلُ بهم من مَوْت أَو هَرَم فيقولون أصابَتْهُم قَوَارِعُ الدَّهْرِ وحَوادِثُه وأبادَهم الدَّهْرُ فيَجْعَلُون الدَّهْرَ الذي يَفعل ذلك فيَذُمُّونه وقد ذَكَروا ذلك في أَشْعَارهم وأَخْبَر الله تعالَى عنهم بذلك في كِتابِه العَزِيز فنهاهم النبي A عن ذلك وقال " لا تَسُبُّوا الدّهرَ . . " على تأْوِيل لا تَسُبّوا الَّذي يَفْعَلُ بكُم هذِه الأَشْيَاءَ فإنَّكُم إِذَا سَبَبْتم فاعِلَهَا فإنَّمَا يَقَع السَّبُّ على الله لأنّه الفاعلُ لها لا الدَّهْر . فَهذا وَجْهُ الحَدِيث . قال الأَزْهَرِيّ : وقد فَسَّر الشَّافِعِيُّ هذا الحَدِيث بنَحْوِ ما فَسَّرَه أَبو عُبَيْد فظنَنَتْ أَنَّ أبَا عُبَيْد حَكَى كلامَه .
وقال المُصَنِّف في البَصَائر : والذي يُحَقِّق هذا الموضِع ويَفْصِل بين الرِّوايَتَيْن هو قوله : " فإنًّ الدَّهْرَ هو الله " حَقِيقَتُه : فإنَّ جالبَ الحوادث هُوَ اللهُ لا غَيْرُ فوضَعَ الدَّهْرَ مَوْضِعَ جالِبِ الحَوَادِثِ كما تقول : إنَّ أبا حَنِيفَة أبُو يُوسفَ تُرِيد أَن النِّهَايَة في الفِقْه هو أَبُو يُوسفَ لا غيره . فتضع أبا حَنِيفَة مَوْضَع ذلِك لشُهْرَتِه بالتَّناهِي في فِقْهِه كما شُهِرَ عندَهم الدَّهْرُ بجَلْبِ الحوادثِ . ومعنَى الروايَةِ الثانيةِ " إنَّ اللهَ هُو الدَّهْر " فإنَّ اللهَ هو الجالِبُ للحوادثِ لا غَيْرُ رَدّاً لاعتقادِهِم أَنّ جالبَهِا الدَّهْرُ كما إِذَا قلتَ : إنَّ أَبا يُوسفَ أبو حَنِيفَةَ كان المعنَى أنَّه النِّهَايَة في الفِقْه . وقال بعضُهُم : الدَّهْر الثانِي في الحَدِيث غير الأوّل وإنما هو مَصْدَرٌ بمعنَى الفاعلِ ومَعْنَاه إنَّ الله هو الدَّهْر أَي المُصرِّف المُدَبِّر المُفِيض لِمَا يَحْدُث انتهى