فصح يقينا أن الجسم إنما يكون في الجسم على سبيل المجاورة كل واحد في حيز غير حيز الآخر وإنما تكون المداخلة بين الأعراض والأجسام وبين الأعراض والأعراض لأن العرض لا يشغل مكانا فيجد اللون والطعم والمجسة والرائحة والحر والبرد والسكون كل ذلك مداخل للجسم ومداخل بعضه بعضا ولا يمكن أن يكون جسم واحد في مكانين ولا جسمان في مكان واحد ثم أن المجاورة بين الجسمين تنقسم أقسام أحدهما أن يخلع أحد الجسمين كيفياته ويلبس كيفية الآخر كنقطة رميتها في دن خل أو دون مرق أو في لبن أو في مداد أو شيء يسير من بعض هذه في بعض أو من غيرها كذلك فإن الغالب منها يسلب المغلوب كيفياته الذاتية والغيرية ويذهبها عنه ويلبسه كيفياته نفسه الذاتية والغيرية والثاني أن يخلع كل واحد منهما كيفياته الذاتية والغيرية ويلبسا معا كيفيات أخر كماء الزاج إذا جاوز الماء العفص وكجسم الجير إذا جاور جسم الزرنيخ وكسائر المعاجن كلها والدقيق والماء وغير ذلك والثالث أن لا يخلع واحد منهما عن نفسه كيفية من كيفياته لا الذاتية ولا الغيرية بل يبقى كل واحد منهما كما كان كزيت أضيف إلى ماء كحجر إلى حجر وثوب إلى ثوب فهذا حقيقة الكلام في المداخلة والمجاورة وأما الكمون فإن طائفة ذهبت إلى أن النار كامنة في الحجر وذهبت طائفة إلى إبطال هذا وقالت أنه لا نار في الحجر أصلا وهو قول ضرار بن عمرو .
قال أبو محمد وكل طائفة منهما فإنها تفرط على الأخرى فيما تدعى عليها فضرار ينسب إلى مخالفيه أنهم يقولون بأن النخلة بطولها وعرضها وعظمها كامنة في النواة وان الإنسان بطوله أو عرضه وعمقه وعظمه كامن في المنى وخصومه ينسبون إليه انه يقول ليس في النار حر ولا في العنب عصير ولا في الزيتون زيت ولا في الإنسان دم .
قال أبو محمد وكلا القولين جنون محض ومكابرة للحواس والعقول والحق في ذلك أن في الأشياء ما هو كامن كالدم في الإنسان والعصير في العنب والزيت في الزيتون والماء في كل ما يعتصر منه وبرهان ذلك أن كل ما ذكرنا إذا خرج مما كان كامنا فيه ضمر الباقي لخروج ما خرج وخف وزنه لذلك عما كان عليه قبل خروج الذي خرج ومن الأشياء ما ليس كامنا كالنار في الحجر والحديد لكن في حجر الزناد والحديد الذكر قوة إذا تضاغطا احتدم ما بينهما من الهواء فاستحال نارا وهكذا يعرض لكل شيء منحرق فإن رطوباته تستحيل نارا ثم دخانا ثم هواء إذ في طبع النار استخراج ناريات الأجسام وتصعيد رطوباتها حتى يفنى كل ما في الجسم من الناريات والمائيات عنه بالخروج ثم لو نفخت دهرك على ما بقي من الأرضية المحضة وهي الرماد لم يحترق ولا اشتعل إذ ليس فيه نار فتخرج ولا ماء فيتصعد وكذلك دهن السراج فإنه كثير الناريات بطبعه فيستحيل بما فيه من المائية اليسيرة دحانا هوائيا وتخرج ناريته حتى يذهب كله وأما القول في النوى والبزور والنطف فإن في النواة وفي البزر وفي النطفة طبيعة خلقها في كل ذلك الله D وهي قوة تجتذب الرطوبات الواردة عليها من الماء والزبل ولطيف التراب الوارد كل ذلك على النواة والبزر فتحيل كل ذلك إلى ما في طبعها إحالته إليه فيصير عودا ولحاه وورقا وزهرا وثمرا وخوصا وكرما ومثل الدم الوارد على النطفة فتحيله طبيعته التي خلفها الله تعالى فيه لحما ودما وعظما وعصبا وعروقا وشرائين وعضلا وغضاريف وجلدا وظفرا وشعرا وكل ذلك خلق الله تعالى فتبارك الله أحسن الخالقين والحمد لله رب العالمين .
قال أبو محمد وذهب الباقلاني وسائر الأشعرية إلى أنه ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في الزيتون زيت ولا في العنب عصير ولا في الإنسان دم وهذا أمر ناظرنا عليه من لاقيناه منهم والعجب كل العجب قولهم هذا التخليط وإنكارهم ما يعرف بالحواس وضررة العقل ثم هم يقولون مع هذا أن