وهذا الكتاب الذي نقدم طبعته الثانية بمطبعة شركة المرحوم السيد مصطفى الباني الحلبي وأولاده بالقاهرة هو في رأينا الكتاب الذي يتقدم كتب الثعالبي في قيمتها وأثرها وحسن الإنتفاع بها في الأجيال الطويلة منذ حياة المؤلف حتى اليوم أما الكتاب الأول فهو يتيمة الدهر .
ولعل أبا الحن أحمد بن فارس القزويني اللغوي ( ت 390ه ) أول من استعمل عبارة " فقه اللغة " في العربية إذ يقول في مقدمة كتابه الذي ألَّفه برسم خزانة الوزير إسماعيل بن عباد صاحب ابن العميد : " هذا الكتاب الصحابيّ في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها " .
ثم ألَّف بعده بقليل معاصره أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي كتابا أسماه : " فقه اللغة " وهو هذا الكتاب الذي نقدم طبعته الثانية بهذه الكلمة إلى جمهرة علماء العربية وأدبائها .
ومع أن غرض كل من المؤلفين التأليف في اللغة واشتراكهما في إطلاق عبارة " فقه اللغة " على موضوع الكتابين فإننا نرى اختلافا واضحا بين مادتيهما فكتاب الصحابي يشمل مباحث مختلفة بعضها نظري مثل باب القول على لغة العرب : أتوقيف أم إصلاح ؟ ومثل القول في إعجاز القرآن . وبعضها تاريخي مثل باب القول على الخط العربي وأول من كتببه ومثل علم العربية وعلم العروض قبل أبي الأسود والخليل بن أحمد وبعضها في الخصائص العامة للغة مثل القول في أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها وبعضها في اللهجات وبعضها في النحو على مذهب الكوفيين وبعضها في التصريف وبعضها في البلاغة مثل معاني الكلام وأقسامه والمعاني التي يحتملها لفظ الخبر والفرق بين الستفهام والاستخبار والحقيقة والمجاز وبعضها في أصول اللغة أو النحو مثل القبائل التي نزل القرآن بلغتها والقول في مأخذ اللغة وهل للغة العرب قياس وهليشتق بعض الكلام من بعض . . . . . . الخ .
ويكاد يكون مفهوم " فقه اللغة " عند ابن فارس يتناول جميع المباحث التي تمتُّ إلى اللغة بسبب سواء أكان ذلك في أصولها أم في فروعها أم في تاريخها .
وهذه المباحث التي اشتمل عليها كتاب " الصحابي " بعيدة عن مادة كتاب " فقه اللغة " لأبي منصور الثعالبي لأن هذا الكتاب إنما هو معجم من المعاجم اللغوية رتبت فيه المادة ترتيبا معنويا لا على ترتيب حروف الهجاء وفائدته لمن يعرف معنى من المعاني ويطلب فيه اللفظ الدال عليه بخلاف معاجم الألفاظ التي يراد منها البحث عن معاني الألفاظ التي يريد الباحث تفسيرها .
وصنيع الثعالبي في فقه اللغة يمتُّ بصلة قوية إلى كتاب " الغريب المصنف " لأبي عبيد القاسم بن سلام كما يُعَدُّ ممهدا لتأليف كتاب المخصص لإبن سيده أكبر المعاجم المرتبة على الموضوعات في اللغة العربية .
والذي يشبه من تآليف الثعالبي كتاب الصحابي لإبن فارس كتاب له آخر إسمه : " سرّ العربية " فإن كثيرا من موضوعاته مشترك بين الكتابين وهو يكرر هذه العبارة في صدر كل موضوع " من سنن العرب . . . . . الخ " وهو احتذاء لقول ابن فارس : الصحابي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها " .
وكتب الطبقات تجعل " فقه اللغة " كتابا و " سرّ العربية " كتابا آخر ولكن الناسخين والوراقين قديما وأصحاب المطابع حديثا جمعوا الكتابين معا بين دفتين وأطلقوا عليهما ترجمة واحدة هي " فقه اللغة وسرّ العربية " على أن بعض الناشرين المحدثين طبعوا كتاب فقه اللغة مستقلا عن صنوه تبعا لبعض النسخ المخطوطة التي فرقت بينهما .
ولكن علماء الغرب المستشرقين يخالفون الشرقيين في مدلول لفظ " فقه اللغة " وهو ما يسمونه philology فيقتصرونه على المباحث التاريخية التي تبين أصل اللغة ونشأتها وتطورها والعوامل التي أدت إلى ارتقائها ونهوضها . وهو عندهم علم نظري خالص وليس علما تطبيقيا كالنحو الذي يبحث في القواعد التي ينبغي أن يؤسس عليها الكلام .
وتاليف المعاجم اللغوية على اختلاف أنواعها يراد به غاية تطبيقية كالنحو والصرف والعروض والبلاغة والنقد فليست كل هذه الأنواع عند المستشرقين من فقه اللغة وعلى ذلك لا يَعُدُّون كتاب الثعالبي من فقه اللغة بالمعنى الحديث وكذلك أكثر مادة الصحابي لإبن فارس وجميع مادة سر العربية للثعالبي .
أما كتاب " الخصائص " لإبن جنى فهو مجموعة مختلفة من مباحث نظرية تدخل في ميدان " فقه اللغة " ومن مباحث أخرى صرفية ونحوية ولغوية وعروضية سيقت لمجرد التمثيل .
وقد رجعنا في هذه التفرقة بين معنيي فقه اللغة عند الشرقيين والمستشرقين إلى محاضرة مفيدة للأستاذ المستشرق " بول كراوس " الذي كان يدرس مادة فقه اللغة بكلية الآداب بجامهة القاهرة سنة 1944 ، وقد لخص الطلاب كلام أستاذهم وكتبوه عنه .
وقد آثرنا إيراد كلام الأستاذ " بول كراوس " بنصه الذي كتبه عنه تلاميذه في الجامعة تعميما للفائدة وتنبيها على فضل صاحبه قال : ليس اصطلاح " فقه اللغة " خاليا من الغموض فقد استعمله القدماء في غير ما نقصد نحن الآن إليه ويسمى في الغرب " PHILOLOGY " فإبن فارس يسمي كتابه : " الصحابي في فقه اللغة " قاصدا إلى المسائل الفكرية والكلامية والفلسفية مثل : هل اللغة توقيفية أو اصطلاحية ؟ وما العلاقة بين الإسم والمسمى ؟ ويبحث في إعجاز القرآن وفي فصاحة قريش وفي شروط الفصاحة والفرق بين الشعر والنثر وكل ذلك مشوب بمباحث في البلاغة . ويشبهه في ذلك كتاب الخصائص لإبن جنى .
أما كتاب " فقه اللغة " للثعالبي فهو يرتب المادة اللغوية أي يجمع الألفاظ التي تستعمل في موضوع واحد فهو من نوع كتاب " تهذيب الألفاظ " أو كتاب " الألفاظ الكتابية " لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني أو هو من نوع الكتب التي من شأنها أن تُمِدَّ الكاتب بعبارات بليغة يستعملها في إنشائه فقيمته وقيمة أشباهه من المؤلفات عملية تطبيقية صرفة وليس فيها شيء من فقه اللغة .
يستعمل " فقه اللغة " اصطلاحا في البحث عن أصل اللغة ولعل تسميته " فقه اللغة " ليس إلا كناية مؤقتة عما يسمى تاريخ اللغة العربية لأن ما نقصد إليه قبل كل شيء إنما هو الكشف عن نشأة اللغة العربية وتطورها والعوامل التي أدت إلى نهوضها وارتقائها .
لقد نكون كافرين بالنعمة إن أنكرنا خدمة القدماء للغة كانت ميزة الخليل وسيبويه أن حصروا اللغة العربية ووصفوها وصفا دقيقا ولكنهم أسسوها على قواعد أما من تبعهم من اللغويين كابن جنى والزمخشري فقد مشوا على آثارهم دون جديد .
والواقع أن اللغة العربية تدرس حتى اليوم على تلك القواعد التي اجتهد القدماء في ترتيبها وتنظيمها وحصروها وأضافوا إليها من المناقشات المدرسية ( يريد الخلاف بين مذاهب النحويين ) من غير أن نستفيد من المباحث اللغوية في العصر الحديث . خذ مثلا علم الأصوات فالمعروف أن الخليل وسيبويه استفادا من معلومات معينة أخذاها وأخذا أيضا من الفلاسفة في مخارج الحروف لكن إلى اليوم تُدرس هذه المادة على تلك القواعد التي لا تطابق أحيانا اللغة العربية على حين أن العلم الحديث يدعو إلى التجديد وخصوصا منذ نشأ علم الأصوات الذي يدعو إلى انقلاب كامل في هذا الموضوع .
وكذلك علم العروض مثلا الذي أنشأه الخليل وسار عليه كل من جاء بعده تقريبا من غير أن يبسطوا قواعده أو يبنوه على أسس أخرى فما أحقنا اليوم أن ندرسه على أسس غير خليلية تكون أقرب من الأسس التي بناه عليها الخليل .
والمعاجم اللغوية أليس القاموس مثلا يحتاج إلى ترتيب ونظام للمعاني المختلفة للمادة بحسب تطورها التاريخي ؟ هل نجد فيه شيئا لما نسميه الإشتقاق ؟ هل نجد فيه شيئا من القابلات والمقارنات باللغات الأخرى ؟ نحن نقلد ونحاكي القدماء .
وهناك فروق أساسية بين النحو وما يفهم الآن من اصطلاح " فقه اللغة "