كرومه والجو قد بعث بذخائر الطيب لطيمة نسيمه والنخل قد أظهرت جواهرها ونشرت غدائرها والطل ينثر لؤلؤه في مسارب النسيم ومساحبه والبحر يرعد غيظا من عبث الرياح به فسأله بعض الحضور أن يصف ذلك الموضع الذي تمت محاسنه وغبط به ساكنه فجاشت لذلك لجج بحره وألقت إليه جواهره لترصيع لبة ذلك القصر ونحره فقال .
( قصر بمدرجة النسيم تحدثت ... فيه الرياض بسرها المستور ) .
( خفض الخورنق والسدير سموه ... وثنى قصور الروم ذات قصور ) .
( لاث الغمام عمامة مسكية ... وأقام في أرض من الكافور ) .
( غنى الربيع به محاسن وصفه ... فافتر عن نور يروق ونور ) .
( فالدوح يسحب حلة من سندس ... تزهى بلؤلؤ طلها المنثور ) .
( والنخل كالغيد الحسان تقرطت ... بسبائك المنظوم المنثور ) .
( والرمل في حبك النسيم كأنما ... أبدى غصون سوالف المذعور ) .
( والبحر يرعد متنه فكأنه ... درع تشن بمعطفي مقرور ) .
( وكأننا والقصر يجمع شملنا ... في الأفق بين كواكب وبدور ) .
( وكذاك دهر بني خليف لم يزل ... يثني المعاطف في حبير حبور ) ثم قال ابن ظافر وأخبرني الفقيه أبو الحسن علي ابن الطوسي المعروف بابن السيوري الإسكندري النحوي بما هذا معناه قال كنت مع الأعز بن قلاقس في جماعة فمر بنا أبو الفضائل بن فتوح المعروف بالمصري وهو راجع من المكتب ومعه دواته وهو في تلك الأيام قرة العين ظرفا وجمالا وراحة القلب قربا ووصالا كل عين إلى وجهه محدقة ولمشهد خديه بخلوق الخجل مخلقة فاقترحنا عليه أن يتغزل فيه فصنع بديها .
( علقته متعلقا ... بالخط معتكفا عليه ) .
( حمل الدواة ولا دواء ... لعاشق يرجى لديه ) .
( فدماء حبات القلوب ... تلوح صبغا في يديه ) .
( لم أدر ما أشكو إليه ... أهجره أم مقلتيه ) .
( والحب يخرسني على ... أني ألكع سيبويه ) .
( ما لي إذا أبصرته ... شغل سوى نظري إليه ) .
وقد آن وقت الرجعة إلى كلام الأندلسيين الذي حلا وأبعدنا عنه بما مر النجعة فنقول ذكر الفتح في قلائد العقيان كما قال ابن ظافر ما معناه أخبرني الوزير أبو عامر بن بشتغير أنه حضر مجلس القائد أبي عيسى بن لبون في يوم سفرت فيه أوجه المسرات ونامت عنه أعين المضرات وأظهرت سقاته غصونا تحمل بدورا وتطوف من المدام بنار مازجت من الماء نورا وشموس الكاسات تطلع في أكفها كالورد في السوسان وتغرب بين أقاحي نجوم الثغور فتذبل نرجس الأجفان وعنده الوزير أبو الحسن ابن الحاج اللورقي وهو يومئذ قد بذل الجهد في التحلي بالزهد فأمر القائد بعض السقاة أن يعرض عليه ذهب كاسه ويحييه بزبرجد آسه ويغازله بطرفه ويميل عليه بعطفه ففعل ذلك عجلا فأنشد أبو الحسن مرتجلا .
( ومهفهف مزج الفتور بشدة ... وأقام بين تبذل وتمنع ) .
( يثنيه من فعل المدامة والصبا ... سكران سكر طبيعة وتطبع ) .
( أو ما إلي بكأسه فكففتها ... ورنا فشفعها بلحظ مطمع ) .
( والله لولا أن يقال هوى الهوى ... منه بفضل عزيمة وتورع ) .
( لأخذت في تلك السبيل بمأخذي ... فيما مضى ونزعت فيها منزعي ) .
وحكى الحميدي أن عبد الملك بن إدريس الجزيري كان ليلة بين يدي الحاجب ابن أبي عامر والقمر يبدو تارة ويخفيه السحاب تارة فقال بديها .
( أرى بدر السماء يلوح حينا ... فيبدو ثم يلتحف السحابا ) .
( وذاك لأنه لما تبدى ... وأبصر وجهك استحيا فغابا ) .
( مقال لو نمى عني إليه ... لراجعني بتصديقي جوابا ) .
وكان صاعد اللغوي صاحب كتاب القصوص - وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب - كثيرا ما يمدح بلاد العراق بمجلس المنصور بن أبي عامر ويصفها ويقرظها فكتب الوزير أبو مروان عبد الملك بن شهيد والد الوزير أبي عامر أحمد بن شهيد صاحب الغرائب وقد تقدم بعض كلامه قريبا إلى المنصور في يوم برد - وكان أخص وزرائه به - بهذه الأبيات .
( أما ترى برد يومنا هذا ... صيرنا للكمون أفذاذا ) .
( قد فطرت صحة الكبود به ... حتى لكادت تعود أفلاذا ) .
( فادع بنا للشمول مصطلبا ... نغذ سيرا إليك إغذاذا ) .
( وادع المسمى بها وصاحبه ... تدع نبيلا وتدع أستاذا ) ولا تبال أبا العلاء زها ... بخمر قطربل وكلواذا ) .
( ما دام من أرملاط مشربنا ... دع دير عمي وطيز ناباذا ) وكان المنصور قد عزم ذلك اليوم على الانفراد بالحرم فأمر بإحضار من جرى رسمه من الوزراء والندماء وأحضر ابن شهيد في محفة لنقرس كان يعتاده وأخذوا في شأنهم فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله ووقت لم يعهدوا نظيره وطما الطرب وسما بهم حتى تهايج القوم ورقصوا وجعلوا يرقصون بالنوبة حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عباس فجعل يرقص وهو متوكئ عليه ويرتجل ويومئ إلى المنصور وقد غلب عليه السكر .
( هاك شيخا قاده عذر لكا ... قام في رقصته مستهلكا ) .
( لم يطق يرقصها مستثبتا ... فانثنى يرقصها مستمسكا ) .
( عاقه عن هزها منفردا ... نقرس أخنى عليه فاتكا ) .
( من وزير فيهم رقاصة ... قام للسكر يناغي ملكا ) .
( أنا لو كنت كما تعرفني ... قمت إجلالا على رأسي لكا ) .
( قهقه الإبريق مني ضاحكا ... ورأى رعشة رجلي فبكى ) .
قال ابن ظافر وهذه قطعة مطبوعة وطرفها الأخير واسطتها وكان حاضرهم ذلك اليوم رجل بغدادي يعرف بالفكيك حسن النادرة سريعها وكان ابن شهيد استحضره إلى المنصور فاستطبعه فلما رأى ابن شهيد يرقص قائما مع ألم المرض الذي كان يمنعه من الحركة قال لله درك يا وزير ! ترقص بالقائمة وتصلي بالقاعدة فضحك المنصور وأمر لابن شهيد بمال جزيل ولسائر الجماعة وللبغدادي .
وقال ابن بسام حدث أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر بن