من الفساد العارض لألسنة أهل العراق لمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم ولما جمع شعراء العصر من أهل الشام بين فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة ورزقوا ملوكا وأمراء من آل حمدان وبني ورقاء هم بقية العرب والمشغوفون بالأدب والمشهورون بالمجد والكرم والجمع بين أدوات السيف والقلم وما منهم إلا أديب جواد يحب الشعر وينتقده ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل انبعثت قرائحهم في الإجادة فقادوا محاسن الكلام بألين زمام وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا .
وأخبرني جماعة من أصحاب الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد أنه كان يعجب بطريقتهم المثلى التي هي طريقة البحتري في الجزالة والعذوبة والفصاحة والسلاسة ويحرص على تحصيل الجديد من أشعارهم ويستملي الطارئين عليه من تلك البلاد ما يحفظونه من تلك البدائع واللطائف حتى كسر دفترا ضخم الحجم عليها وكان لا يفارق مجلسه ولا يملأ أحد منه عينه غيره وصار ما جمعه فيه على طرف لسانه وفي سن قلمه فطورا يحاضر به في مخاطباته ومحاوراته وتارة يحله أو يورده كما هو في رسائله فمن ذلك قول القائل - من الطويل - .
( سلام على تلك المعاهد إنها ... شريعة وردي أو مهب شمالي ) .
( ليالي لم نحذر حزون قطيعة ... ولم نمش إلا في سهول وصال ) .
( فقد صرت أرضى من سواكن أرضها ... بخلب برق أو بطيف خيال )