مكانٍ تقعانِ فيه منَ التأليِف والنظمِ بأكثرَ من أن تكونَ هذه مألوفةً مستعملةً وتلك غريبةً وحشيةً أو أن تكونَ حروفُ هذه أخفَّ وامتزاجُها أحسنَ ومما يَكُدُّ اللسانَ أَبْعَدَ .
وهل تجدُ أحداً يقولُ : هذه اللفظةُ فصيحةٌ إلاَّ وهو يعتبرُ مكانَها منَ النظم وحسنَ مُلائمةِ معناها لمعنى جاراتِها وفضلَ مؤانَستها لأخواتها وهل قالوا : لفظةٌ متمكَّنةٌ ومقبولةٌ وفي خلافهِ : قلقةٌ ونابيةٌ ومستكرهةٌ إلا وغرضُهم أن يُعبروا بالتمكُّن عن حسنِ الاتفاقِ بينَ هذه وتلك من جهةِ معناهُما وبالقلقِ والنُبَّو عن سوء التلاؤم . وأنَّ الأولى لم تَلِقْ بالثانية في مَعناها وأن السابقَةَ لم تصلُحْ أن تكونَ لِفقاً للتالية في مُؤدَّاها .
وهل تشكُّ إِذا فكرتَ في قولهِ تعالى : ( وقِيلَ يَا أرْضُ ابْلَعي ماءَكِ ويا سَمَاءُ أَقْلِعِي وغَيضَ الماءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ واسْتَوَتَ عَلَى الجُودِيَّ وقِيلَ بُعْداً لِلقَوم الظَّالِمين ) . فتجَلَّى لك منها الإِعجازُ وبَهَرك الذي تَرى وتَسمع ! أنك لم تَجدْ ما وجدتَ منَ المزيَّةِ الظاهرة والفضيلةِ القاهرة إلا لأمرٍ يرجعُ إلى ارتباطِ هذه الكلمِ بعضِها ببعضٍ وأن لم يعرضْ لها الحسنُ والشرفُ إلاّ مِنْ حيثُ لاقتِ الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن تستقرِبَها إلى آخرِها وأنَّ الفضلَ تَنَاتَجَ ما بينها وحصلَ من مجموعها .
إن شككتَ فتأملْ ! هل ترى لفظةً منها بحيثُ لو أُخذتْ من بين أخواتها وأُفردتْ لأَدَّتْ منَ الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها منَ الآية قُل : " ابلعي " واعتَبِرْها وحدَها من غيرِ أن تنظرَ إلى ما قبلها وإلى ما بعدَها وكذلك فاعتبرْ سائرَ ما يليها . وكيفَ بالشكَّ في ذلك ومعلومٌ أنَّ مبدأ العظمةِ في أن نُوديتِ الأرضُ ثم أُمرتُ ثم في أنْ كانَ النداءُ ب " يا " دُوْنَ " أيّ " نحوُ : يا أيتها الأرضُ . ثم إضافةُ الماءِ إلى الكافِ دونَ أن يقالَ : ابلعي الماءَ ثم أنْ أُتبعَ نداءُ الأرض وأمرُها بما هو من شأنها ونداءُ السماء وأمرُها كذلك بما يخصُّها . ثم أنْ قيلَ : وغيضَ الماءُ . فجاء الفعل على صيغة " فُعِلَ " الدالَّة على أنه لم يَغِضْ إلاّ بأمرِ آمرٍ وقدرةِ قادر . ثم تأكيدُ ذلك وتقريره بقولهِ تعالى : ( قُضِيَ الأمرُ ) . ثم ذكَر ما هو فائدةُ هذهِ الأمورِ وهو ( استوتْ على الجوديَّ ) . ثم إضمارُ السفينةِ قبلَ الذكرِ كما هو شَرْطُ الفخامةِ والدَّلالةِ على عِظَمِ الشأن . ثم مقابلةُ " قيل " في الخاتمةِ ب " قيل " في الفاتحة . أَفَتَرى لشيءٍ