واعْلَمْ أن هاهُنا دقائقَ لو أنَّ الكنديَّ استقرأ وتصفَّحَ وتتبَّعَ مواقِعَ " إِنَّ : ثم أَلْطَفَ النظرَ وأكثر التدبُّرَ لَعَلِمَ عِلْمَ ضرورةٍ أنْ ليس سواءً دخولُها وأن لا تَدْخلَ . فأوَّلُ ذلك وأعجبُه ما قدَّمتُ لك ذكرَه في بيتِ بشارٍ : .
( بَكِّرا صاحِبَيّ قبلَ الهَجيرِ ... إنَّ ذاكَ النَّجاحَ في التَّبْكير ) .
وما أنشدتُه معه من قولِ بعض العرب : .
( فَغَنِّها وَهْيَ لكَ الفِداءُ ... إنّ غِناءَ الإِبلِ الحُداءُ ) .
وذلك أنه هَلْ شيءٌ أبْينُ في الفائِدة وأدلُّ على أنْ ليس سواءً دخولُها وأنْ لا تدخل من أنك ترى الجملةَ إذا هيَ دخلتْ ترتبطُ بما قبلها وتأتلفُ معه وتَتَّحدُ به . حتى كأنَّ الكلامين قد أُفرغا إفراغاً واحداً وكأنَّ أحدَهما قد سُبِك في الآخَرِ .
هذه هي الصورةُ حتى إذا جئتَ إلى " إنَّ " فأسقطتَها رأيتَ الثاني منهما قد نَبا عن الأوَّل وتجافى معناه عن معناه ورأيتَه لا يتصلُ بهولا يكونُ منه بسبيل حتى تجيءَ بالفاء فتقول : بكِّرا صاحبَيّ قبل الهجير فذاكَ النجاحُ في التَّبكير وغنِّها وهي لك الفداءُ فغناءُ الإِبلِ الحُداءُ . ثم لا ترى الفاءَ تعيدُ الجملتين إلى ما كانتا عليه مِنَ الألفة ولا تردُّ عليك الذي كنت تجد ب " إنَّ " من المعنى .
وهذا الضربُ كثيرٌ في التَّنزيلِ جدَّاً من ذلك قولُه تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظيمٌ ) وقولُه عزَّ اسمُه : ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وأْمُرْ بالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ واصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) وقولُه سبحانه : ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) ومن أَبْينَ ذلك قولُه تعالى : ( ولا تُخَاطِبْنِي في الَّذينَ ظَلَمُوا إنَّهُمْ مُغْرَقُوْنَ ) وقد يتكَّررُ في الآيةِ الواحدةِ كقوله عزَ اسمُه : ( وما أُبَرِّىءَ نَفْسي إنَّ النفسَ لأَمَّارةٌ بالسُّوء إلاَّ ما رَحِمَ رَبّي إنَّ ربَّي غَفورٌ رَحيمٌ ) وهي على الجملةِ من الكَثْرةِ بحيثُ لا يدركُها الإِحصاءُ