وتصلِحَه لذلك بشيءٍ تتوخّاه في النظم . وإن أردتَ مثالاً في ذلك فانظْر إلى قوله - الطويل - : .
( تناسَ طِلابَ العامِريَّة إذْ نأتْ ... بأسْجَحَ مِرْقالِ الضُّحَى قَلقِ الضَّفْرِ ) .
( إذا ما أَحَسَّتْهُ الأفاعي تَميَّزتْ ... شَواةُ الأفاعي في مُثَلَّمةِ سُمَرِ ) .
( تَجُوبُ له الظَّلْماءَ عينٌ كأنَّها ... زُجَاجَةُ شَرْبٍ غيرُ مَلأى ولا صِفْرِ ) .
يَصِفُ جَملاً ويريد أنه يهتدي بنورِ عينه في الظلماء ويمكنُه بها أن يخرقَها ويمضي فيها . ولولاها لكانتِ الظلماءُ كالسدِّ والحاجزِ الذي لا يجدُ شيئاً يفرِّجُه به ويَجعلُ لنفسه فيه سبيلاً . فأنت الآن تعلمُ أنه لولا أنه قال : " تجوبُ له " فعلَّق " له " ب " تجوب " لما صلُحَتِ العينُ لأن يُسْنَدَ " تجوب " إليها ولكان لا تَتَبَيَّن جهةُ التجوُّز في جعلِ " تجوب " فعَلاً للعين كما ينبغي . وكذلك تعلمُ أنه لو قال مثلاً : تَجوبُ له الظلماءَ عينُه لم يكنْ له هذا الموقعُ ولا ضرَبَ عليه معناه وانقطع السِّلْكُ من حيثُ كان يعيبُه حينئذٍ أن يصِفَ العينَ بما وصفها به الآن .
فتأمَّلْ هذا واعتبرْه . فهذه التهيئة وهذا الاستعدادُ في هذا المجاز الحُكْمي نظيرُ أنك تراك في الاستعارةِ التي هي مجازٌ في نفسِ الكلمة وأنت تحتاجُ في الأمر الأكثر إلى أن تمهِّدَ لها وتقدِّمَ أو تؤخرَ ما يُعْلَمُ به أنك مستعيرٌ ومشبِّهٌ ويفتح طريقَ المجاز إلى الكلمة . ألا تَرى إلى قولهِ - الطويل - : .
( وصاعِقَةٍ مِن نَصْلِهِ تَنْكَفِي بها ... عَلى أَرْؤُسِ الأَقْرانِ خَمْسُ سَحائبِ ) .
عَنى بخمسِ السحائبِ أناملَه ولكنه لم يأتِ بهذه الاستعارة دفعةً ولم يَرْمِها إليك بَغْتةً بل ذكر ما يُنبىءُ عنها ويُستدَلُّ به عليها فذكر أن هناك صاعقةً وقال : " مِنْ نصلِه " فبيَّن أنَّ تلك الصاعقةَ من نصلِ سيفِه ثم قال : " على أرؤسِ الأقرانِ " ثم قال : " خمسُ "