فائدةٌ مِنَ الذي يصحُّ منه السَّمْعُ إلاّ أنه لا يسمعُ إما اتفاقاً وإما قصداً إلى أنْ لا يسمعَ فاعرفْه وأحسِنْ تدبُّره .
ومنَ اللطيف في ذلك قولُه تعالى : ( ما هذا بَشرَاً إنْ هَذا إلاّ مَلَكٌ كرِيمٌ ) وذلك أن قولَه : ( إنْ هذا إلاّ ملكٌ كريمٌ ) مشابِكٌ لقولِهِ : ( ما هذا بشراً ) ومُداخلٌ في ضِمْنه من ثلاثة أوجهٍ : وجهان هو فيهما شبيهٌ بالتأكيدِ ووجهٌ هو فيه شبيهٌ بالصفةِ . فأحدُ وجهَيْ كونِه شبيهاً بالتأكيدِ هو أنه إذا كان مَلكاً لم يكن بشراً وإذا كان كذلك كان إثباتُ كونِهِ ملكاً تحقيقاً لا محالَة وتأكيداً لنفي أنْ يكونَ بشراً . والوجهُ الثاني أن الجاريَ في العرِف والعادةِ أنه إذا قيلَ : ما هذا بشراً وما هذا بآدميٍّ والحال حالُ تعظيمٍ وتعجُّبٍ مما يُشَاهَدُ في الإِنسانُ مِنْ حُسْنِ خلْقٍ أو خُلُق أن يكونَ الغرضُ والمرادُ من الكلامِ أن يقال إنه ملَكَ وأنْ يُكْنَى به عن ذلك حتى إنَّه يكون مفهومَ اللفظ . وإذا كان مفهوماً مِنَ اللفظ قَبْلَ أن يُذْكَر كان ذكرهُ إذا ذُكِرَ تأكيداً لا محالَة لأنَّ حَدَّ التأكيدِ أنْ تحقِّقَ باللفظِ مَعْنًى قَد فُهِمَ مِنَ لَفْظٍ آخرَ قَدْ سَبَقَ منَكَ . أفلا ترى أنه إنما كان كلُّهم في قولَك : جاءني القوم كلُّهم تأكيداً من حَيْثُ كانَ الذي فُهِمَ منه وَهُوَ الشُّمولُ قد فُهم بديئاً من ظاهِرِ لفظِ القومِ . ولو أنَّه لم يكن فُهِم الشمولُ من لفظِ القومِ ولا كانَ هو مِنْ موجبه لم يكن كلٌّ تأكيداً ولكان الشمولُ مُستفاداً من كلِّ ابتداء .
وأما الوجه الثالث الذي هو فيه شبيهٌ بالصِّفة فهو أنّه إذا نُفَيَ أن يكونَ بَشراً فقد أثبتَّ له جنسَ سِواه إذْ منَ المُحالِ أن يخرُجَ من جنسِ البشرِ ثم لا يدخُلُ في جنسٍ آخرَ وإذا كانَ الأمُر كذلكَ كان إثباتُه مَلَكاً تبييناً وتعييناً لذلك الجنسِ الذي أريدَ إدخالُه فيه وإغناءً عن أن تحتاجَ إلى أن تسألَ فتقولَ : فإنْ لم يكنْ بشراً فما هُوَ وما جنسُه كما أنًّك إذا قلتَ : مررتُ بزيدٍ الظريفِ كان الظريفُ تَبييناً وتعييناً للذي اردتَ مِنْ بينَ مَنْ له هذا الاسمُ وكنتَ قد أغنيتَ المخاطَبَ عن الحاجةِ إلى أن يقول : أيَّ الزَّيدينِ أردتَ .
ومما جاءَ فيه الإِثباتُ بإنْ وإلاّ على هذا الحدِّ قولُه عزَّ وجلَّ ( ومَا عَلَّمناهُ الشِّعْرَ وما يَنْبَغي لَهُ إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ وقُرآنٌ مُبِينٌ ) وقولُه ( وما يَنْطقُ عَنِ الهَوى إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ