هذا فصل في " الذي " خصوصاً .
أعلمْ أنَّ لك في " الذي " علماً كثيراً وأسراراً جمَّةً وخفايا إذا بحثْتَ عنها وتصورتَها اطَّلَعْتَ على فوائدَ تُؤْنسُ النفسَ وتُثلِجُ الصَّدرَ بما يُفْضِي بكَ إليه منَ اليقين ويؤدِّيه إليكَ من حُسْنِ التَّبيين . والوجُه في ذلك أنْ تتأملَ عباراتٍ لهم فيه : لِمَ وُضِعَ ولأيِّ غَرَضٍ اجتُلِبَ وأشياءَ وصفوه بها .
فمن ذلك قولهم : إن " الذي " اجتُلِبَ ليكونَ وصلةً إلى وصفِ المعارفِ بالجُمل كما اجتُلِبَ " ذو " ليتوصَّلَ به إلى الوصِف بأسماءِ الأجناس يعنون بذلك أنك تقولُ : مررتُ بزيدٍ الذي أبوه منطلِقٌ وبالرجلِ الذي كان عندَنا أمسِ . فتجدُكَ قد توصَّلتَ بالذي إلى أن يبيِّنَ أبنْتَ زيداً مِنْ غيرهِ بالجملة التي هي قولُك : " أبوه منطلِقٌ " . ولولا " الذي " لم تصِلْ إلى ذلك كما أنك تقولُ : مررتُ برجلٍ ذي مَالٍ : فُيتوصَّلُ بذي إلى أن يبيَّن الرجلُ من غيرهِ بالمال . ولولا " ذو " لم يتأتَّ لكَ ذلكَ إذ لا تستطيعُ أن تقولَ : برجلٍ مالٍ . فهذه جملةٌ مفهومةٌ إلاّ أن تحتَهَا خبايا تحتاجُ إلى الكشفِ عنها .
فمن ذلك أن تَعْلَمَ مِنْ أينَ امتنعَ أن توصَفَ المعرفةُ بالجملة ولِمَ لَمْ يكن حالُها في ذلك حالَ النكرةِ التي تَصِفُها بها في قولكَ : مررتُ برجلٍ أبوه منطلِقٌ ورأيتُ إنساناً تُقادُ الجنائبُ بينَ يديِه . وقالوا : إنَّ السببَ في امتناعِ ذلك أن الجملَ نكراتٌ كلُّها بدلالة أنها تُسْتَفَادُ وإنما يستفادُ المجهولُ دونَ المعلوم . قالوا : فلمَّا كانت كذلك كانتْ وَفقاً للنكرة . فجازَ وصفُها بها ولم يَجُزْ أن توصَفَ بها المعرفةُ إذ لم تكُنْ وَفقاً لها