وذاك أنَّ الكاذبَ لا سيَّما في الدَين لا يعترفُ بأنه كاذبٌ وإِذا لم يعترفْ بأنه كاذبٌ كان أبعدَ من ذلك أن يعترفَ بالعلمِ بأنه كاذبٌ أو يجيءُ فيما اعترضَ فيه شكٌّ نحوُ أن يقولَ الرجلُ : كأنَّك لا تعلمُ ما صَنَعَ فلانٌ ولم يَبْلُغْك فيقولُ : أنا أعلمُ ولكنّي أُداريه أو في تكذيبِ مُدَّعٍ كقولهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( وإِذا جَاؤُوكُمْ قَالُوا آمَنّا وقَدْ دَخَلُوا بالكُفْرِ وهُمْ قد خَرَجُوا بِه ) . وذلك أنَّ قولهم : آمنّا دَعوى منهم أنَّهم لم يَخْرجوا بالكفرِ كما دَخلوا به فالموضعُ مَوْضِعُ تكذيب . أو فيما القياسُ في مثلهِ أن لا يكونَ كقولهِ تعالى : ( واتَّخذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُون ) وذلك أنَّ عبادتَهم لها تَقْتضي أن لا تكونَ مخلوقةً . وكذلك في كلَّ شيءٍ كان خَبراً على خلافِ العادةِ وعمّا يُستغربُ من الأمرِ نحوُ أن نقولَ : ألا تعجَبُ من فلان يدّعي العظيمَ وهو يَعْيا باليسيرِ ويزعمُ انّهُ شجاعٌ وهو يَفْزَع من أدنى شيء .
ومِمّا يَحْسُن ذلك فيه ويكْثُر الوَعْدُ والضَّمانُ كقولِ الرجل : أنا أعطيكَ أنا أكفيكَ أنا أقومُ بهذا الأمر . وذلك أنَّ مِنْ شأنِ من تَعِدُه وتضمنُ له أن يعترضَه الشكّ في تمامِ الوعدِ وفي الوفاءِ به فهو من أحوجِ شيءٍ إلى التَّأكيد وكذلك يكْثُرُ في المدحِ كقولك : أنت تُعطي الجزيلَ أنت تقْري في المَحْلِ أنت تجودُ حينَ لا يجودُ أحد . وكما قال - الكامل - : .
( ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبعضُ ... القَوْمِ يَخْلُقُ ثمّ لا يَفْري ) .
وكقول الآخر - من الرمل - : .
( نَحْنُ في المَشْتاةِ نَدْعُو الجَفَلى ... )