أولاً ومن قَبْلِ أن تَذْكُرَ الفِعْلَ في نفسه لكي تباعِدَه بذلك في الشُّبْهة وتَمنعَه من الإِنكار أو مِنْ أن يَظُنَّ بك الغلطَ أو التزيُّد ومثالُه قولُك : هو يعطي الجزيلَ وهو يحب الثناءَ لا تريدُ أن تزعمَ أنه ليس هاهُنا مَن يعطي الجزيلَ ويحب الثناء غيرُه ولا أن تُعَرضَ بانسانٍ وتحطَّه عنه وتجعلَه لا يُعطي كما يعطي ولا يرغَبُ كما يَرْغَبُ . ولكنك تريدُ أن تحقَّقَ على السامعِ أنَّ إعطاءَ الجزيل وحبَّ الثناءِ دأبُه . وأن تمكَّنَ ذلك في نفسهِ . ومثالُه في الشّعر - طويل - : .
( هُمُ يُفْرِشُونَ اللّبدَ كُلَّ طِمرَّةِ ... وأجْرَدَ سبَّاحٍ يَبُذُّ الْمُغالِيا ) .
لم يُردْ أن يدَّعيَ لهم هذه الصَّفةَ دعوَى من يُفْردهُم بها وينصُّ عليهم فيها حتى كأنّه يعرضُ بقومٍ آخرين فينفي أن يكونوا أصحابَها هذا محال ! وإِنَّما أرادَ أن يصفَهُم بأنّهم فرسانٌ يَمْتهدون صهواتِ الخيل وأنهم يقتعدون الجياد منها وأن ذلك دأبُهم من غير أن يَعْرضَ لنفيهِ عن غيرِهم إلاّ أنه بدأ بذكرِهم لينبَّه السامع لهم ويُعلِم بَدِيَّاً قصدَه إليهم بما في نفسهِ من الصفة ليمنَعَه بذلك من الشكَّ ومن توهُّم أن يكونَ قد وصَفَهم بصفةٍ ليستْ هي لهم أو أن يكونَ قد أرادَ غيرَهم فغلِطَ إليهم وعلى ذلك قولُ الآخر - طويل - : .
( هُمُ يَضْرِبونَ الكَبْشَ يَبْرُقُ بَيْضُهُ ... عَلى وَجْههِ مِنَ الدماءِ سَبائِبُ ) .
لم يُردْ أن يدَّعيَ لهم الانفرادَ ويجعلَ هذا الضربَ لا يكونُ إلاّ منهم . ولكنْ أرادَ الذي ذكرتُ من تَنبيهِ السَّامع لقصْدِهم بالحديثِ من قبلِ ذكرِ الحديثِ ليحقَّق الأمرَ