قال حذاق الأدب تراكيب التورية في هذا البيت بالنسبة إلى ديباجة المتأخرين وطلاوة ألفاظهم وزخارف بيوتهم تستحق قول القائل .
( وما مثله إلا كفارغ حمص ... خلي من المعنى ولكن يفرقع ) .
لأن هذا النوع أعني التورية ما تنبه لمحاسنه إلا من تأخر من حذاق الشعراء وأعيان الكتاب ولعمري إنهم بذلوا الطاقة في حسن سلوك الأدب إلى أن دخلوا إليه من باب فإن التورية من أغلى فنون الأدب وأعلاها رتبة وسحرها ينفث في القلوب ويفتح بها أبواب عطف ومحبة وما أبرز شمسها من غيوم النقد إلا كل ضامر مهزول ولا أحرز قصبات سبقها من المتأخرين غير الفحول ومما يؤيد قولي هذا قول الشيخ صلاح الدين الصفدي C تعالى في ديباجة كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام ومن البديع ما هو نادر الوقوع ملحق بالمستحيل الممنوع وهو نوع التورية والاستخدام فإنه نوع تقف الأفهام حسرى دون غايته عن مرامي المرام .
( نوع يشق على الغبي وجوده ... من أي باب جاء يغدو مقفلا ) .
لا يفرغ هضبته فارع ولا يقرع بابه قارع إلا من تنحو البلاغة نحوه في الخطاب وتجري ريحها بأمره رخاء حيث أصاب .
وقال الزمخشري وهو حجة في هذا العلم ولا نرى بابا في البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله وكلام نبيه وكلام صحابته Bهم أجمعين فمن ذلك قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) لأن الاستواء على معنيين أحدهما الاستقرار في المكان وهو المعنى القريب المورى به الذي هو غير مقصود لأن الحق تعالى وتقدس منزه عن ذلك والثاني الاستيلاء والملك وهو المعنى البعيد المقصود الذي وري عنه بالقريب المذكور ومنه قول النبي حين سئل في مجيئه عند خروجه إلى بدر فقيل لهم ممن أنتم فلم يرد أن يعلم السائل فقال من ماء أراد أنا مخلوقون من ماء فورى عنه بقبيلة يقال لها ماء ومنه ما روي عن النبي أنه قال لا يزال المنام طائرا حتى يقص فإذا قص وقع ففي الكلام توريتان لفظة طائر ولفظة يقص ويحتمل أيضا أن يكون في لفظة وقع تورية ثالثة ومنه قول أبي بكر Bه في الهجرة وقد