( خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب ) .
فإنه خص تهذيب الفكر بالدجى لكون الليل تهدأ فيه الأصوات وتسكن الحركات فيكون الفكر فيه مجتمعا ومرآة التهذيب فيه صقيلة لخلو الخاطر وصفاء القريحة لا سيما وسط الليل والنفس قد أخذت حظها من الراحة بعد نيل قسطها من النوم وخف عليها ثقل الغذاء وصح ذهنها وصار صدرها منشرحا وقلبها بالتأليف منبسطا وما قدموا وسط الليل في التأليف على السحر مع ما فيه من رقة الهواء وخفة الغذاء وأخذ النفس سهمها من الراحة إلا لما يكون فيه من انتباه أكثر الحيوان الناطق وارتفاع معظم الأصوات وجرس الحركات وتقشع الظلماء بطلائع الأضواء وبدون ذلك ينقسم الفكر ويشتغل القلب ووسط الليل خال مما ذكرناه ولهذا خص أبو تمام تهذيب الفكر بالدجى عادلا عن الطرفين لما فيهما من الشواغل المذكورة .
وحكت الثقات عن أبي عبادة البحتري الشاعر قال كنت في حداثتي أروم الشعر وكنت أرجع فيه إلى طبع سليم ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب حتى قصدت أبا تمام وانقطعت إليه واتكلت في تعريفه عليه فكان أول ما قال لي يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء وصفا من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء وسكنت الغماغم ورقت النسائم وتغنت الحمائم .
وإذا شرعت في التأليف تغن بالشعر فإن الغناء مضماره الذي يجري فيه واجتهد في إيضاح معانيه فإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقا والمعنى رشيقا وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق والتعلل باستنشاق النسائم وغناء الحمائم والبروق اللامعة والنجوم الطالعة والتبرم من العذال والوقوف على الأطلال .
وإذا أخذت في مدح سيد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأرهب من عزائمه ورغب في مكارمه واحذر المجهول من المعاني وإياك أن تشين شعرك بالعبارة الردية والألفاظ الوحشية وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام وكن كأنك خياط تقدر الثياب على مقادير الأجسام وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل إلا وأنت فارغ