حكمه وأعرب بقوله هذا عن متانة علمهفإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء فأدرك بذلك بعد المرام مع قربه إلى الإفهام وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية .
وأما أبو الطيب المتنبي فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال وأنا أقول قولا لست فيه متأثما ولا منه متلثما وذاك أنه خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها وأشجع من أبطالها وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها حتى تظن الفريقين قد تقابلا والسلاحين قد تواصلا فطريقه في ذلك تضل بسالكه وتقوم بعذر تاركه ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة ابن حمدان فيصف لسانه ما أدى إليه عيانه ومع هذا فإني رأيت الناس عادلين فيه عن سنن التوسط فإما مفرط في وصفه وإما مفرِّط وهو وإن انفرد بطريق صار أباعذره فإن سعادة الرجل كانت أكبر من شعره وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة .
( لا تَطْلُبَنَّ كَرِيماً بَعْدَ رُؤْيَتِهِ ... إن الْكِرَامَ بِأَسْخَاهُمْ يَداً خُتِمُوا ) .
( وَلا تُبَالِ بِشِعْرٍ بَعْدَ شَاعِرِهِ ... قَدْ أَُفْسِدَ الْقَوْلُ حَتَّى أُحْمِدَ الصَّمَمُ ) ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى وجدته أقساما خمسةخمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره وخمس من جيد الشعر الذي يساويه فيه غيره وخمس من متوسط الشعر وخمس دون ذلك وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يعبأ بها وعدمها خير من