ومما يجري هذا المجرى ورود لام التوكيد في الكلامِ ولا يجيء ذلك إلا لضرب من المبالغةِ وفائدته أنه إذا عبر عن أمر يعز وجوده أو فعل يكثر وقوعه جيء باللام تحقيقاً لذلك .
فمما جاء منه قوله تعالى في أول سورة المنافقين ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) فانظر إلى هذه اللامات الثلاثة الواردة في خبر إنِ والأولى وردت في قول المنافقينِ وإنما وردت مؤكدة لأنهم أظهروا من أنفسهم التصديق برسالة النبي ِ وتملقواِ وبالغوا في التملقِ وفي باطنهم خلافهِ وأما ما ورد في الثانية والثالثة فصحيح لا ريب فيهِ واللام في الثانية لتصديق رسالتهِ وفي الثالثة لتكذيب المنافقين فيما كانوا يظهرونه من التصديق الذين هم على خلافه .
وكذلك ورد قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام ( قالوا يأبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون ) فإنه إنما جيء باللام ههنا لزيادة التوكيد في إظهار المحبة ليوسف عليه السلام والإشفاق عليه ليبلغوا الغرض من أبيهم في السماحة بإرساله معهم .
ومن هذا الباب قوله تعالى ( أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أن نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون ) ثم قال ( أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون ) ألا ترى كيف أدخلت اللام في آية المطعوم دون آية المشروب ! وإنما جاءت كذلك لأن جعل الماء العذب ملحاً أسهل إمكاناً في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذبِ وكثيراً ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحاً إلى زيادة تأكيدِ فلذلك لم تدخل عليه لام التأكيد المفيدة زيادة التحقيقِ وأما المطعوم فإن جعله حطاماً من الأشياء الخارجة عن المعتادِ وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديدِ فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره وتقريره إيجاده