الآية فإن السابق بالخيرات مختص بصفة الفضلِ والظالم لنفسه مختص بصفة الكثرةِ فقس على هذا ما يأتيك من أشباهه وأمثاله .
ومن هذا الجنس قوله تعالى ( والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ) فإنه إنما قدم الماشي على بطنه لأنه أدل على القدرة من الماشي على رجلين إذ هو ماش بغير الآلة المخلوقة للمشيِ ثم ذكر الماشي على رجلين وقدمه على الماشي على أربع لأنه أدل على القدرة أيضاً حيث كثرت آلات المشي في الأربعِ وهذا من باب تقديم الأعجب فالأعجب .
فإن قيل قد ورد في القرآن الكريم في مواضع منه ما يخالف هذا الذي ذكرتهِ كقوله تعالى في سورة هود ( وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار ) ثم قال ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة ) فقدم أهل النار في الذكر على أهل الجنةِ وهذا مخالف للأصل الذي أصلته في هذا الموضع .
فالجواب عن ذلك أن هذا الذي أشرت إليه في سورة هود وما أشبهه له أسرار تحتاج إلى فضل تأمل وإمعان نظرِ حتى تفهم أما هذا الموضع فإنه لما كان الكلام مسوقاً في ذكر التخويف والتحذيرِ وجاء على عقب قصص الأولين وما فعل الله بهم من التعذيب والتدمير كان الأليق أن يوصل الكلام بما يناسبه في المعنىِ وهو ذكر أهل النار فمن أجل ذلك قدموا في الذكر على أهل الجنةِ وإذا رأيت في القرآن شيئاً من هذا القبيل وما يجري مجراه فتأمله وأمعن نظرك فيه حتى يتبين لك مكان الصواب منه .
واعلم أنه إذا كان مطلع الكلام في معنى من المعاني ثم يجيء بعده ذكر شيئين أحدهما أفضل من الآخر وكان المعنى المفضول مناسباً لمطلع الكلامِ فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت لأنك إن قدمت الأفضل فهو في موضعه من التقديمِ وإن قدمت المفضول فلأن مطلع الكلام يناسبهِ وذكر الشيء مع ما يناسبه أيضاً وارد في موضعه