واعلم أن هذا الضرب من الكلام هو ضد الفصاحة لأن الفصاحة هي الظهور والبيانِ وهذا عار عن هذا الوصف .
أما الضرب الثاني الذي يختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك فإنه مما لا يحصره حدِ ولا ينتهي إليه شرحِ وقد أشرنا إلى نبذة منه في هذا الكتاب ليستدل بها على أشباهها ونظائرها .
فمن ذلك تقديم السبب على المسببِ كقوله تعالى ( إياك نعبد وإياك نستعين ) فإنه إنما قدم العبادة على الاستعانة لأن تقديم القربة والوسيلة قبل طلب الحاجة أنجح لحصول الطلبِ وأسرع لوقوع الإجابة ولو قال إياك نستعين وإياك نعبد لكان جائزاً إلا أنه لا يسد ذلك المسدِ ولا يقع ذلك الموقعِ وهذا لا يخفى على المنصف من أرباب هذه الصناعة وعلى نحو منه جاء قوله تعالى ( وأنزلنا من السماء ماء طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً ) فقدم حياة الأرض وإسقاء الأنعام على إسقاء الناسِ وإن كانوا أشرف محلاً لأن حياة الأرض هي سبب لحياة الأنعام والناسِ فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة في الذكرِ ولما كانت الأنعام من أسباب التعيش والحياة للناس قدمها في الذكر على الناس لأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهمِ فقدم سقي ما هو سبب نمائهم ومعاشهم على سقيهم .
ومن هذا الضرب تقديم الأكثر على الأقلِ كقوله تعالى ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ) وإنما قدم الظالم لنفسه للإيذان بكثرتهِ وأن معظم الخلق عليهِ ثم أتى بعده بالمقتصدين لأنهم قليل بالإضافة إليهِ ثم أتى بالسابقين وهم أقل من القليل أعني من المقتصدين فقدم الأكثرِ وبعده الأوسطِ ثم ذكر الأقل آخراًِ ولو عكست القضية المعنى ايضاً واقعاً في موقعه لأنه يكون قد روعي فيه تقديم الأفضل فالأفضل .
ولنوضح لك في هذا وأمثاله طريقاً تقتفيهِ فنقول اعلم أنه إذا كان الشيئان كل واحد منهما مختصاً بصفة فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت في الذكرِ كهذه